أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات مسرحية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات مسرحية. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 9 أغسطس 2017

التأليف المسرحي ومحنة الجوائز

مجلة الفنون المسرحية

التأليف المسرحي ومحنة الجوائز

وليد علاء الدين - العرب 


علينا أن نعيد القيمة إلى التأليف المسرحي بوصفه إبداعًا مستقلًا، وليس مجرد مدخل أولي لعرض مسرحي. المؤلف الذي يكتب للخشبة يظل محدودًا بتصوراته عنها، وهي محدودة مهما اتسعت ومهما بلغت درجة انغماسه وخبرته في المسرح.

بعد إعلان جوائز المهرجان القومي المصري للمسرح، وحجب جائزة “أفضل مؤلف صاعد”، بحثت على الانترنت وعلى موقع المهرجان القومي للمسرح وموقع وزارة الثقافة عن شروط التقدم لنيل هذه الجائزة التي تُمنح للـ”صاعد” وللأسف لم أجد.

بالمنطق العام لن يخرج الأمر عن ثلاث صور: الأولى أن الاختيار يتم من بين العروض المسرحية المشاركة في المهرجان.

وهو في رأيي المتواضع أمرٌ يُعيدنا إلى إشكالية المسرح بين النص والخشبة. فإذا كنا نتحدث عن جائزة أفضل “مؤلف” فليس من الإنصاف أن نحكم على نص المؤلف بعد مروره بكل هذه الفلاتر الفنية وصولًا إلى العرض على الخشبة. فماذا لو أخفق كل هؤلاء وكان النص في أساسه ناجحًا!

إذا كان هذا هو واقع الحال في جائزة “التأليف” في أكبر مهرجان مسرح في مصر، فإنها إشارة إلى أن العقلية التي تدير الأمر متوقفة عند اللحظة التاريخية التي سبقت الجدل الذي أثاره توفيق الحكيم رحمه الله عن المسرح بوصفه نصًّا وعن كون الكتابة لخشبة الذهن هي القائد لنجاح خشبة المسرح. ولا يصبح -والأمر كذلك- حجب الجائزة حكمًا على ضعف حركة التأليف المسرحي بل إدانة للعقول التي تتحكم في المشهد المسرحي الرسمي.

وإذا لم تجد اللجنة بين العروض التي سمحت بمشاركتها عرضًا يستحق جائزة أفضل مؤلف، فعلى أي أساس اختارت هذه العروض للمشاركة في المهرجان؟ إنه في الواقع وضع يستدعي مراجعة شاملة لمنظومة المهرجان ومسابقاته ومفاهيمه.

وعليه فإنني أستبعد هذه الصورة رغم أنها الأقرب إلى واقع ما يحدث، إلى حين توفر المعلومة.

ننتقل إلى الصورة الثانية، وهي أن الاختيار يتم من بين نصوص يتقدم بها المؤلفون أو الناشرون وفق شروط تتعلق بالسن مثلًا -مستوحاة من كلمة صاعد!- أو باللغة، أو بشروط تتعلق بالقضايا التي تعالجها النصوص المسرحية.

ولو كان الأمر كذلك فإن حجب الجائزة -أيضًا – يصبح حكمًا على فشل المهرجان في استقطاب نصوص مسرحية راقية، إما بسبب تراجع مستويات الثقة “فنيًا” في ذائقته وابتعاده إلى حد الانفصال عن المؤلفين الشباب (مستوحاة أيضا من كلمة صاعد) وما يقدمونه من كتابات تحاول تحريك بعض جوامد المسرح المصري التي توقفت في معظمها عند استلهام الغربي أو استدعاء التراث، وإما بسبب تراجع مستويات الثقة عمومًا في كل مؤسسات الثقافة الرسمية التي أثبتت أنها تغرد خارج سرب الشارع والمجتمع. وهو أمر يحتاج إلى وقفة مراجعة شاملة لمعرفة أسباب هذا الانفصال ومعالجتها.

الصورة الثالثة والأخيرة، هي أن يتم الاختيار من خلال رصد شامل لحركة التأليف المسرحي المنشور على امتداد فترة زمنية معينة، أو بشروط محددة تتعلق بكمّ أو نوع ما ينتجه المؤلف لكي يمكن تصنيفه صاعدًا وتأهيله للمشاركة في الجائزة.

هذه الصورة صعبة التحقق بل مستحيلة التنفيذ، خاصة مع ما نعرفه عن الواقع المترهل لمؤسسات الثقافة الرسمية في مصر. لكن، ويا للمفارقة هي الحالة الوحيدة التي يُسمح معها لرئيس لجنة تحكيم جائزة أفضل مؤلف صاعد -مهما كانت شهرته وخبرته- بالحديث عن عدم وجود مؤلفين جديرين بجائزة أفضل مؤلف صاعد!

علينا أن نعيد القيمة إلى التأليف المسرحي بوصفه إبداعًا مستقلًا، وليس مجرد مدخل أولي لعرض مسرحي. المؤلف الذي يكتب للخشبة يظل محدودًا بتصوراته عنها، وهي محدودة مهما اتسعت ومهما بلغت درجة انغماسه وخبرته في المسرح.

مع تكرار الكتابة لخشبة المسرح يتحول المؤلف إلى مجرد ترس في آلة يشعر بضآلته داخلها فيكتب على قدر هذه الضآلة. والمؤلف الحقيقي لا يمكن أن يكون ترسًا ولا ينبغي أن يشعر بالضآلة. إنه ماكينة إنتاج رئيسية منتجها صالح للتداول الفكري والقراءة، به متعته وله لذته ودهشته المتحققة بالفعل. ليس مجرد نص مكتوب من أجل خشبة محددة الملامح وجمهور محدد الصفات ينتظر التحقق فقط فوقها ولهذا الجمهور. إنما نص إنساني إبداعي متفجر، يزداد ألقه وتفجره بلمسات مخرج لا يقل عن مؤلفه في الثقافة والوعي والإبداع فينتقل به إلى مساحة اتصال أخرى على خشبة المسرح مضاعفًا من حضوره بالتأويل مستعينًا بفنون مبدعين آخرين في مجالات عديدة.

هذا ما نحتاج إليه وإلا فقدنا المسرح، وانغلقت علينا –أكثر وأكثر- دائرة التكرار التي سقطنا فيها منذ عشرات السنين، نعيد القديم أو نستلهم تجارب الآخرين بفرح وفخر وكأننا نعيد اختراع العجلة، ونتعجب من انصراف الجمهور، نتحدث عن تجارب محنطة كأنها إنجازات خارقة، ونقدم التجارب المحفوظة وكأنها ابتكارات خرجت لتوها من أفران الإبداع ونتأسف لتراجع الحركة المسرحية، نثبت الكادر على لقطة تنتمي إلى تاريخ مختلف وبشر مختلفين لم يعد أحد يكتب مثلهم لأنهم ببساطة كانوا يكتبون لبشر آخرين، ونندهش: لماذا لم يعد لدينا مسرح مثلما كان!

ادعموا التأليف للمسرح بوصفه إبداعًا مكتوبًا، واتركوه يستقل وينفصل ويحظى بحركة نقد جيدة، وانتظروا فسوف تثمر التجارب النصية تجارب مسرحية متألقة تشبه النبض الذي يسري في أوردة مصر، والذي -بلا أدنى شك- يختلف كثيرًا عن النبض الذي يحاول البعض تحنيطه من فترة ستينات القرن الماضي أو ربما قبلها.


السبت، 5 أغسطس 2017

غنام غنام بالفن ينتشر و ينتصر لقضايا أمته

مجلة الفنون المسرحية

غنام غنام بالفن ينتشر و ينتصر لقضايا أمته

 *د. محمد نصار - شبكة ميديا نيوز 

الابداعات الفنية التي تزاوج الفن بالسياسة ولد من رحمها عظماء خالدين منذ الإغريق ولغاية كتابة هذه السطور .

ولعل غنام غنام من أولئك المبدعين الذين سطروا حكاية إبداعية رائعة قل مثيلها في تاريخ الفن المسرحي العربي المعاصر ، إذ قاد بمعنى الكلمة نهضة فنية مسرحية مؤسسية وأطلق العنان لحرية الفكر والرأي والمعتقد وألهم الكثير من فناني المسرح العربي والسياسيين والمثقفين ورسخ أهمية الفن وقيمته الذهنية من خلال تجاربه التي خطها بيده وفسرها بعروض درامية حازت على اعجاب الجماهير العربية و أقرانه من المبدعين الأردنيين والعرب .

واليوم ينطلق بهذه التجربة ( ليلك ضحى الموت في زمن داعش ) نحو العالمية الى اليابان ويترجمها إلى مشاعر انسانيه وهموم عالمية .

هكذا هو الفن هو إرث الانسان الى الانسان بعيدا عن الجغرافيا والتاريخ والحدود والأسلاك الشائكة .

فن المسرح عند غنام أدب وفن حوار ومناظرة إنسانية ( وسياسية واجتماعية وعبر ودروس و تاريخ وخيال وهموم كانت وما زالت ترجمها جميعها إلى الواقع المعاش ) تجارب يعقبها نقاش يؤثر في جمهوره ومن خلاله كأنه يقول : “إذا أصلح الفنان اختياراته ويختار موضوعاته من رحم هم البشر صلح فانه كله “. وعلى هكذا نهج سار غنام في ابداعاته الإنسانية التي امتدت وتخطت المساحة العروبية وتجهت الى العالمية . وتجارب غنام الإبداعية وإبداعاته المسرحية قد تجاوزت الخمس والعشرين عاما تقريبا
ترعرع غنام الفنان خلالها في حضن الإبداع والمبدعين الاردنيين والعرب وتوج مسيرته في الهيئة العربية للمسرح مولد ابداعاته الفنية فكأنها هديةً إلهية مكسية بحسن الفأل.
والد هناك في الهيئة فاحتضنته كل دوائر الابداعات العربية المتنورة وساهم هو الآخر في رعايتها وعهد وتعليمها وتربيتها لأجّل الفن والفنان العربي .

نعم هو عاش في عمان متجولا بين ومسارحها وساحاتها ومقاهيها قادة ثورة فنية جريئة تمخض عنها إنتاج فكري متنور، أثرت بالفنان الاردني والعربي .
عمل مع معظم فنانينا وشجعهم واستعان بهم في عروضه مخرجا وممثلا. ولولا نخبوية غنام واختياراته الإنسانية ربما كان مصيره مصير الكثيرين من المبدعين العرب الذين تلاشت ابداعاتهم وأثرهم التدريجي في التاريخ الفني العربي .

أخذ غنام مساراً أكثر تألقاً وبوحاً وانفتاحاً مع الهيئة العربية فأصبح غنام أحد نجوم الفن العربي الساطع .
فأضحى الفنانين العرب يحجون الى ابداعاته المقروءة والمرئية في حين كان هو يزود نفسه بالعلم والثقافة العامة والثقافة الفنية وأصبح أكثر انفتاحا على الآخر العربي والعالمي ويحصن نفسه بالتجربة والخبرة والممارسة حتى أصبحت ابداعاته توزن بالذهب وأصر على الإبداع ودعم المبدعين العرب .
اسس اكثر من فرقة مسرحية وقدم عشرات العروض المسرحية محليا وعربيا سواء أكان مخرجا وممثلا او اداريا يرعى الإبداع والمبدعين العرب .
قاد حركة فنية عربية وبها منح التاج المسرحي العربي الذي مكانه إلى دخول الصفوف العالميةً مرموقاً فأصبحت لغة فنية عالمية .

غنام لا زال يجوب عواصم بلاد العرب اوطاني من البحر الى النهر وله من العمر 63 عاما، فكأنما اختار المنفى في حياته رحالا بين عواصم الفنية العربية .

غنام قصة تأمل وشجون لأمة أركان التقليد والنقل والخمول ومنحت للإبداع إجازة مرضية طال أمدها فقاربت على الاستيداع الاختياري وربما التقاعد.
غنام قصة يجب أن تروى لأجيالنا القادمة وظاهرة فريدة تستحق من مدارسنا وجامعاتنا دراستها وتحليلها من منظور فني إبداعي عصري .

*أستاذ التمثيل والإخراج /جامعة اليرموك _ عضو نقابة الفنانين

الاثنين، 31 يوليو 2017

المسرح مابعد الحداثي خلخلة القناعات وتعليق المعنى

مجلة الفنون المسرحية

المسرح مابعد الحداثي خلخلة القناعات وتعليق المعنى


عواد علي - الجديد 


رغم أن أعمال تيار مابعد الحداثة، في الفنون بشكل عام، تراوغ محاولات التصنيف والتحديد دائماً، فإن المسرح مابعد الحداثي هو، ببساطة شديدة، ذلك المسرح الذي يقوم على خلخلة القناعات، وتقويض القواعد والفرضيات العقلانية التي طرحتها الحداثة، واستحالة تحديد المعنى، والتلاعب الواعي بالصور الخيالية، وأنماط تصوير الواقع، وبالرموز والمعاني، واستخدام فن الكولاج، وتدمير استقلالية العرض المسرحي. وقد ظهر بتأثير من أساليب الفن، أو التصميم المعماري مابعد الحداثي، وسمات «المفارقة» «والدلالات المتناقضة» في السرد الروائي، وتقنياته التي كسرت الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية، وبين التاريخ والرواية، وكذلك من نظرية رقص مابعد الحداثة وتجاربه التي تطورت في فترة ستينات القرن الماضي.
بعض نقاد المسرح في الغرب، وخاصةً باتريس بافيس، يرى أن مفهوم «المسرح مابعد الحداثي» مفهوم غامض، فاقد الذاكرة، سريع الزوال، يتسم بعدد من النزعات، أبرزها:

نزعة اللاتسييس: إن مابعد الحداثة تستوي في نظر بعضهم بلاتسييس الفن، وغياب منظور تاريخي، وعودة لقوة المحافظين الجدد الذين يرحبون بتطوير العلم الحديث مادام هذا يتخطى مداه ليحرز تقدماً تقنياً ونمواً رأسمالياً، وينصحون بسياسة نزع الفتيل من المضمون المتفجر الخاص بحداثة ثقافية، أو إبقاء السياسة بعيدة ما أمكن عن متطلبات التبرير الأخلاقي-العلمي.

نزعة الإحكام والشمولية: إن التحدي في وجه العمل الفني، كشمولية، لم يصبح نصيراً لمابعد الحداثة، وقد لاحظت نظرية بريشت في المسرح الملحمي أنه «ليس ثمة ما هو أصعب من قطع عادة معاملة عرض ككل»، لكن هذا التفكيك لا يمكن أن يتحقق إلاّ عندما يصبح المرء معتاداً على إعادة مركز العمل وإكماله ووضعه في وهم الشمولية.

نزعة إفساد الممارسة بالنظرية: لكي يجري تذوّق العرض المسرحي بافتراض أنه لا يمكن استيعابه أو تفسيره، لا بد من فهم طريقة أدائه لوظيفته، وهكذا كانت الشخصية المجردة والمبدئية والمنهجية لكثير من العروض، أو التمييز بين أداة الإنتاج والتلقي، وبين النشاط التأويلي الذي يقوم به المتلقي. إن فن مابعد الحداثة يستخدم ويعيد استثمار النظرية في إنتاج المعنى قي كل مكان وكل لحظة في الإخراج، ويصبح النص والإخراج العمود الفقري في الممارسة الدالة، ويشقان سلسلةً من المسارات تتناقض ويتقاطع بعضها مع بعض، ثم تنفصل مرة أخرى رافضةً دلالةً شاملةً أو مركزيةً.

وبناءً على ذلك فإن مسرح مابعد الحداثة، حسب بافيس، يرفع النظرية إلى مرتبة النشاط العابث، ويقترح القدرة على إعادة تمثيل الماضي بدلاً من التظاهر بإعادة خلقه وامتصاصه كميراث وحيد. وفي ضوء هذه النزعات يمكن اعتبار الفرق بين الحداثة ومابعد الحداثة المسرحية كما يأتي: لم تعد مابعد الحداثة تشعر بالحاجة إلى إنكار أي دراماتورجيا، أو رؤية عالم (كنقيض لمسرح العبث مثلاً)، إنها تعطي لنفسها مهمّة إحداث تفكيكها الخاص كطريقة لتجسيد نفسها لا في تراث شكلي أو موضوعي، بل في وعي ذاتي متأمل للنفس، ومن ثم بأدائها لوظيفتها كما لو أن كل الأشكال والمضامين قد فقدت أهميتها بالنظر إلى الوعي بالأداء الوظيفي والتلفظ. أما العلاقة بين مسرح مابعد الحداثة والميراث الكلاسيكي فإنها تمضي، ليس عن طريق التكرار أو رفض المضمون، بل من خلال ابتكار نوع من العلاقة التي يمكن مقارنتها بذاكرة كومبيوتر.

من أبرز أشكال المسرح مابعد الحداثي ما اصطلح عليه بـ»المسرح مابعد الدرامي»، في منحاه العام، وتفرعاته العديدة مثل «مسرح الهيستيريا الوجودي» الذي أسسه ريتشارد فورمان في نيويورك، وهدفه مسرحة عمليات التفكير في مجموعة من الصور عالية التعقيد لإنتاج مسرح تجريدي يقوم المشاهد فيه بممارسة الاستغراق الذهني وسط هيستيريا وجودية تطلقها الصور المتلاحقة، في حين يقف الممثلون مجرد متحدثين خلف إطارات لإيصال الأفكار! وكذلك أعمال زميله روبرت ويلسون التي تميزت بكونها خاليةً من أيّ بناء سردي، ومفتقدةً إلى أيّ نقطة يمكن اعتبارها بدايةً أو نهاية فعلاً أو ردة فعل، شيئاً من خطاب مكتوب أو شفاهي.

إن هذا الشكل المسرحي ينهض على التشظي والتنافر والتقويض انطلاقاً من مفهوم جاك دريدا للطريقة التي تعمل بها اللغة، ولوظائف العلامات ونسق عملها (عبر علاقات الاختلاف والإرجاء التي يستحيل معها تحديد معنى الدوال بصورة نهائية). وهو أيضا وليد التفتت الاجتماعي للمجتمعات المعاصرة، والتشابك العالمي للأسواق ووسائل الإعلام، حسب توصيف الفيلسوف الفرنسي ليوتار للوضع مابعد الحداثي.

لقد نظّر لمفهوم «المسرح مابعد الدرامي» الباحث والناقد المسرحي الألماني هانز- تيز ليمان (أستاذ الدراسات المسرحية في جامعة غوته بفرانكفورت) عام 1999 في كتاب له بالعنوان نفسه لخّص فيه عدداً من الخصائص والسمات الأسلوبية التي ميزت المسرح الطليعي منذ أواخر الستينات من القرن الماضي. ورغم أن المفهوم ليس جديداً بشكل جذري (إذ أن المسرحي الأميركي ريتشارد شيشنر استخدم المصطلح أول مرة عام 1970 لوصف الأحداث)، فإن ليمان طوره ليصبح نظريةً شاملةً.

شهدت الثقافة المسرحية العربية في السنوات الأخيرة سجالاً فكرياً حول مفهوم «مابعد الحداثة» ومرجعياتهما بشكل عام في المسرح، والمظاهر والرؤى التي أفرزتها تجاربها في المسرح الغربي، وعلاقتها بالتصوّرات الفلسفية والأحداث والتحوّلات

تجارب عالمية

منذ بداية ثمانينات القرن الماضي ظهرت عروض مسرحية تدور في فلك النماذج الفنية التي أتت بها مابعد الحداثة، مثل: العروض التي قدمها المخرج والكاتب الكندي (الصيني الأصل) بنج تشونج (1946-) في الولايات المتحدة الأميركية، والتي اتسمت بـالتنافر والتشظي، وتوظيف وسائط فنية متعددة تطرح كل واحدة منها قضية منفصلة. وعروض المخرجة الأميركية اليزابيث ليكومبت (1944-) مع فرقتها «ووستر»، ابتداءً من عام 1978، التي جمعت بين عناصر، صوتية وبصرية، شديدة الاختلاف والتباين، مستقاة من مصادر متنوعة (أعمال درامية، وأفلام سينمائية) في كولاج مسرحي مثير، يدمر أفق التوقعات المعتاد. والعروض الأخيرة للفنانة الأميركية جوان جوناس (1936-)، التي تتناول قصصاً مألوفةً، وأساليب وأنواعاً فنيةً معروفةً، وتوظّف عدداً من الوسائل المتنوعة بطريقة تبدو وكأنها تتعمد تدمير قدرة هذه الوسائل والأساليب على الانتظام والتآلف في وحدة فنية كلية.


نحن والمسرح مابعد الحداثي

شهدت الثقافة المسرحية العربية في السنوات الأخيرة سجالاً فكرياً حول مفهوم «مابعد الحداثة» ومرجعياتهما بشكل عام في المسرح، والمظاهر والرؤى التي أفرزتها تجاربها في المسرح الغربي، وعلاقتها بالتصوّرات الفلسفية والأحداث والتحوّلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عاشتها المجتمعات الغربية، والتيارات الفنية التي تنضوي تحتها، وجذورها في تجارب بعض المسرحيين المتمردين وتنظيراتهم. وقد نظم مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، في سياق هذا السجال، ندوةً رئيسةً عام 2004 بعنوان «المسرح في زمن مابعد الحداثة». ومن بين الآراء والتصورات التي يستند إليها ذلك السجال:

-1 إن مصطلح «مابعد الحداثة» لا يوجد أكثر غرابة وفوضى واضطراباً وتشويشاً وضلالاً وغموضاً منه في تاريخ الحركة الفنية والأدبية العالمية، والدليل على ذلك، حسب أصحاب هذا التصور، كثرة المسمّيات التي أطلقت عليه، مثل: «مجتمع الاستعراض» طبقاً لجي ديبور، و»المجتمع الاستهلاكي»، كما وصفه هنري لوفيفر، و»مجتمع مابعد الصناعي»، الذي صكه دانييل بل، و»ما بعد الاقتصادي»، حسب هيرمان كاهن، و»مابعد المادي»، طبقاً لرونالد انجلهارت. لكن هذه المسميات التي يستشهد بها هؤلاء المسرحيون هي لمفكرين سوسيولوجيين واقتصاديين، لا لمنظرين أو باحثين مسرحيين، حاولوا تخطي مفاهيم علم اجتماع الحداثة ونظرياته، وقاموا بتأويل أعمال ماركس، وتكريس التوجه الكوني (العولمي)، والإفادة من ثورة المعلوماتية، وبشّروا بمجتمع خالٍ من الطبقات والثقافات المهيمنة (مجتمع الموجة الثالثة)، وبنهاية الأيديولوجيات الكبرى.

-2 إن الحداثة نوع من الشكوكية تجاه ما وراء السرد، إذ تضع في الصدارة ما هو غير صالح للتقديم في التقديم نفسه، ويوضع الفنان أو الكاتب المابعد حداثي في موقع الفيلسوف، فالنص الذي يكتبه، والعمل الذي ينتجه لا يكونان محكومين، أساساً، بقواعد مسبقة، ولا يمكن أن يحكم عليهما على وفق حكم معين.

ويتسم هذا التصور بكونه تصوراً عاماً وبدهياً لطبيعة العمل المسرحي مابعد الحداثي، من دون أن يوضح كيفية خرقه للقواعد المسرحية المتعارف عليها. وإذا كانت تلك ميزته الأساسية، فإن عشرات الأعمال الفنية التي تصنف ضمن حركة الحداثة قد فعلت ذلك منذ أكثر من نصف قرن.

-3 إن المسرح مابعد الحداثي له تاريخ صلاحية محدد، فهو يتنكر للمسرحيات الكلاسيكية، ويتميز بكونه ضد المعنى، ومن أهم سماته: «الكولاج»، و»البارودي»، و»المحاكاة التهكمية»، وإلغاء الفواصل بين الثقافة العليا وثقافة الجماهير وخلط فنونهما معاً، ويركز على ثقافة تتسم بعدم التماسك والتشظي حين يردد مريدوه أن العالم بلا معنى، وأنه مشتت ومتجزئ. وعلى النقيض من ذلك يعد المسرح الكلاسيكي مسرحاً خالداً، لا تنتهي صلاحيته، ويفصل بين الثقافة الرفيعة والثقافة المنحطة.

ومن غير أن ننحاز إلى المسرح مابعد الحداثي يمكن الرد على أصحاب هذا التصور الأخير بملاحظتين أساسيتين أولاهما: أنهم يتناسون أن الكثير من النصوص الكلاسيكية نجحت في العروض المسرحية المعاصرة بفضل القراءات الجديدة لها، سواء المتشظية أو غير المتشظية، والرؤى الإخراجية الحداثية، أو مابعد الحداثية التي صاغتها، والأنماط المختلفة لتلقيها، ومن ثم فإن تلك النصوص اكتسبت صلاحيةً جديدةً بفعل إعادة إنتاجها بوصفها مواد أوليةً، أو خامات قابلةً لاكتساب خصائص مغايرة لطبيعتها الأولى في المختبرات والمشاغل الإخراجية، وفعاليات القراءة والتلقي. أما الملاحظة الثانية فهي أن مصطلح «المعنى» عندهم يفتقر إلى الدقة، أو يشوبه اللبس، فمابعد الحداثة لا ترفض ما يوحي إليه الخطاب الأدبي أو الفني من مدلولات تنتجها إمكانيات التأويل، بل ترفض المدلول المركزي أو الشامل الذي يقترحه منتج الخطاب، وتحل محله عدداً لا نهائياً من المدلولات التي يشكّلها القارئ أو المتلقي، وتدعو إلى تعليق المعنى بدلاً من تحديده، وذلك لأن الخطاب الأدبي أو الفني، من وجهة نظرها، يشق، في ممارسته الدالة، سلسلة من المسارات تتناقض ويتقاطع بعضها مع بعض، ثم تنفصل مرة أخرى رافضة دلالةً قارةً أو مغلقةً.


تجارب عربية

قُدّمت في المسرح العربي تجارب عديدة يمكن إدراجها في سياق المسرح مابعد الحداثي، نذكر منها، تمثيلاً لا حصراً، بعض تجارب المخرج العراقي صلاح القصب، المعروفة بـ»مسرح الصورة»، مثل: (عزلة في الكرستال، الحلم الضوئي، وأحزان مهرج السيرك)، وعروض المخرج الأردني محمد بني هاني (أحلام مقيدة، الثقب الأسود، وسمفونية وحشية)، ومجموعة من تجارب المخرج البحريني عبدالله السعداوي مع فرقة الصواري (سكوريال، الكمامة، الرهائن، القربان، الكارثة، والساعة 12 ليلاً)، وبعض عروض المخرجة الأردنية مجد القصص، مثل (سجون، بلا عنوان، وأوراق الحب).

يُعد صلاح القصب رائداً في هذا الاتجاه، فتجاربه التي تابعناها منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي تقوم على شبكة من التكوينات الجسدية، والأشكال الحركية والإيمائية والسينوغرافية المركبة، الغامضة، المصممة على وفق علاقات إيحائية متغيرة، تصاحبها إيقاعات صوتية بشرية مختلفة، كالتمتمات، والصرخات، والتأوهات، والهمهمات. وتستغني أحياناً عن الحوار استغناءً تاماً، أو تكتفي بالقليل الجوهري منه لإعلاء الجانب البصري في العرض. إن من أبرز ما تميزت به هذه التجارب:

-1 عدم ترابط الأفعال المسرحية، وتقاطع حلقاتها باستخدام أسلوب الهدم والبناء المتكرر للفعل، أو الحافز الواحد، بحيث لا تنمو الأفعال نمواً طبيعياً.

-2 التوكيد على أنماط السلوك التي يفرزها اللاشعور عند الشخصيات، لذا تبدو مفتتة، شعورياً ووجودياً، وعلامات قابلة للتكرار، والموت والانبعاث.

-3 ابتداء لوحات العرض من شكل فوضوي وقلق وملتبس وانتهائها إلى شكل منتظم ومستقر قابل للتأويل والاستنطاق.

-4 نزوع لوحات العرض إلى أن تكون حلماً متدفقاً يثير الدهشة بغرائبيته، وكشفه عن المسكوت عنه، والمطمور في داخل الإنسان.


أحزان مهرج السيرك

في عرض «أحزان مهرج السيرك»، الذي أعده عن سيناريو سينمائي قصير للكاتب والشاعر الروماني ميهاي زامفير، جرّد القصب اللوحات المسرحية من ملامحها الأيقونية، مقدِّماً تجربةً ذات أجواء غريبة تتداخل فيها مستويات عديدة من أشكال التعبير البصري السيريالي والفانتازي والرمزي، في نسيج شديد الكثافة، تفتقر فيه اللقطات والصور إلى الحد الأدنى من المعقولية، فلا وجود لأيّ حبكة، ولا استمرارية للفعل، ولا زمان وفضاء تاريخيين، بل ذاتيان ونفسيان، حيث تبدو معظم المرئيات والكائنات في فضاءات سحرية وحلمية، مقتطعةً من سياقها الطبيعي، موضوعةً في مواقع اعتباطية مدهشة، متنقلةً بحركات سائلة كما لو كانت كائنات أسطوريةً.

الحداثة وما بعد الحداثة.. تناقضات من التمثيل إلى العرض

مجلة الفنون المسرحية

الحداثة وما بعد الحداثة.. تناقضات من التمثيل إلى العرض

صميم حسب الله  - المدى


كثيرة هي الدراسات التي تناولت دراسة مفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة ، سواء  بوصفها مناهج نقدية أو بوصفها أساليب اشتغال  كما هو حاصل في الدراسات المسرحية التي اختارت الحداثة وما بعد الحداثة التي باتت تمتلك خاصيات متنوعة على مستوى النص أو العرض ، بمعنى أن العديد من الدراسات كشفت عن وجود علامات فارقة في نصوص الحداثة وأخرى ترتبط بنصوص ما بعد الحداثة ، وبالرغم من أن كلا المصطلحين لم يستقرا على تصورات مفاهيمية محددة وقارة إلا ان الدراسات المسرحية لم تزل تنهمر علينا كما السيل الجارف ، والعديد منها يزيد من غموض المصطلحات بدلاً من أن يفك الاشتباكات الحاصلة فيها ، وبخاصة بما يتعلق بـ(التفريق بين الحداثة – وما بعد الحداثة).
وفيما يتعلق بالدراسة التي بين أيدينا والمعنونة (من التمثيل إلى العرض - مقالات حول الحداثة وما بعد الحداثة، تأليف : فيليب أوسلاندر، ترجمة : د.سحر فراج إصدارات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي- 14)، فهي إبتداءً تسهم على نحو فاعل في زيادة الغموض والتعقيد ، وذلك يعود إلى انها تلغي الحدود الفاصلة بين المصطلحين ،بالرغم من أن عنوان الكتاب يحيل القارئ إلى وجود مفصلين في الدراسة أحدهما يتعلق بدراسات الحداثة والآخر حول مابعد الحداثة ، إلا الخلط بين المصطلحين بدا واضحا حتى أننا نعتقد أن العنوان لايرتبط بطروحات الكتاب ، وقد أكد المؤلف ذلك من خلال توجيه الشكر "إلى تاليا رودجرز على اقتراحها إياه "(1)  وقد تبين لاحقاً ان العنوان لايرتبط بفلسفة الكتاب وإنما يرتبط بمسيرة المؤلف الشخصية  والذي يشير إلى ذلك بقوله :" توحي عبارة من التمثيل إلى العرض بمسار النمو الذي اتبعته اهتماماتي ، حيث تطورت من التزام في الأساس بالمسرح إلى مفهوم أوسع للعرض وانواعه (ارجو الا يكون من التطاول أن اوحي بأن العديد من دارسي المسرح من أبناء جيلي يشتركون معي في هذا التطور الفكري) "(2)، ومن هنا نجد ان الخصوصية التي يفترض ان تكون حاضرة في أفكار المؤلف، بل إنها كانت تعتمد على الأفكار التي يتداولها المسرحيون في تلك المرحلة.  
 وفي إشارة أخرى  أراد المؤلف لها ان تكون علمية في تحديد ضرورات اختيار العنوان فإنه يؤكد " ان عبارة العنوان توحي بالتطورات والمناقشات داخل الحقل الاكاديمي الامريكي الذي يحيط بتطور دراسات الأداء كحقل علمي بمنأى عن دراسات المسرح ولذا فإنني سأبدأ مناقشتي بتلك  المجادلات(...) فإن عنوان هذا الكتاب يعبر عن مفهومي للعلاقة بين الدراسات المسرحية والدراسات الأدائية على انها علاقة اتصال وليست علاقة انفصال "(3)
ويبدو ان المؤلف أراد تدعيم الفكرة التي طرحها حول أهمية العنوان فراح يؤسس مفهوماً عن اختلاف المسرح عن الأداء ، معتمدا في ذلك على تقسم المسرح إلى قسمين " الاول هو المسرح الجماعي الذي ينقل المشاهدين إلى حالة من الانسجام الوجداني بعضهم مع بعض من خلال احتفائهم بهويتهم المشتركة ككائنات بشرية(...) اما المفهوم الثاني فهو المسرح المقدس ويعتبر مسرحاً علاجياً صمم من اجل تحقيق التجدد الروحاني من اجل الكشف عن الاشياء المادية النفسية المكبوتة"(4).
ان المؤلف يدور في حلقة مفرغة من المعلومات التي عفا عنها الزمن وانتهى منها ، ذلك أن المؤلف يعمل على إعادة انتاج الاشكال المسرحية السابقة إبتداءً من ستانسلافسكي وانتهاءً ببيتر بروك، ولا جديد في تلك الطروحات سوى انها معلومات للذكرى ،  كما يفعل الامر ذاته مع بعض المفاهيم التي باتت ثابتة في الوعي المسرحي ، كما جاء في مفهومه عن التطهير الذي يعتقد به اكتشافا مابعد حداثيا حينما يقول " أن التطهير لم يكن التأثير الوحيد الذي يوقعه العرض على الجمهور، فالكاتب والمؤدون والجمهور على السواء يدركون التطهير كنتيجة لمشاعرهم في العمل الفني، ويكون هذا نتيجة لأن العقل الكلاسيكي لم يكن ليميز بين الكاتب والنص والاداء والجمهور كخواص للنقد المعاصر "(5) وعلى الرغم من بداهة المعلومة التي طرحت بخصوص التطهير إلا أن المؤلف يقع في مغالطة مفادها عدم امتلاك المتلقي الكلاسيكي  القدرة على التمييز بين (الممثل والمؤلف والجمهور) اعتقد أن هذه مغالطة كبيرة .
وفي الفصول الاخرى من الكتاب والتي حملت عنوانات فاعلة إلا أنها لم تكن تمتلك مضامين معبرة عنها ذلك ان تلك العنوانات كانت تشير إلى مسرح مابعد الحداثة ، إلا ان المضامين كانت تشير إلى دراسات مسرحية ، بمعنى ان الاشتغال النظري هو الذي كان حاضرا في هذا الكتاب على العكس من طروحات المؤلف في البداية حول اختلاف (المسرح عن العرض) ، فهو يعمل على توظيف دراسة سابقة بشكل او بآخر كما يفعل العديد من الكتاب العرب  ومنهم دراسات   (يوسف عبد المسيح ثروت) ، والتي يعد هذا الكتاب على شاكلتها ، بوصفه كتاباً تجميعياً لعدد من المقالات  على طريقة الاستعراض وليس على طريقة التحليل النقدي الذي يقدم قراءات جديدة ومغايرة لتلك الأفكار التي تشكل بمجملها المفاهيم المعاصرة المتمثلة في طروحات الحداثة ومابعد الحداثة.

السبت، 29 يوليو 2017

سأموت في المنفى لغنام غنام أول مونودراما المزدوجة تعتمد على موهبة الممثل

مجلة الفنون المسرحية

سأموت في المنفى  لغنام غنام أول مونودراما المزدوجة تعتمد على موهبة الممثل

 هايل المذابي : 


المونودراما هي لفظة لاتينية مركبة من شقين الأول مونو و الآخر دراما و مونو تعني شخص واحد و الدراما تعني المسرحية و المحصلة من الشقين تعني ” المسرحية التي يؤديها شخص واحد ” أو بلغة العصر “ون مان شو”.. ظهرت في أوروبا في القرن الثامن عشر محاولات لتطوير هذا الفن من خلال الاعتماد على موهبة الممثل و ليس بإقحام شخصية أخرى في المسرحية و ظلت هذه النظرية التي تعتمد على الممثل و موهبته حبيسة الكتب بمعنى أنها لم تُستوعب في الأعمال الفنية و يتم تجسيدها على الخشبة. عربيا قدمت أعمال كثيرة و سجلت بأسماء أصحابها لدى مؤسسات و هيئات عربية و دولية لكن أغلبها كان احتياليا على المصطلح و لم تعتمد على موهبة الممثل كما أسلفت. و كان بالإمكان الاستعانة بالعلوم الأخرى و موروثات الشعوب لإحداث إضافة حقيقية لهذا الفن لكن لم يتم استيعابها بهذه الطريقة و تم اللجوء أحيانا إضافة شخصيات أخرى أو تغيير في الديكور ليظهر ثنائية العرض. مثلا يقسم علم الشخصية الإنسان إلى ثلاث شخصيات: تلك التي هو عليها و الأخرى تلك التي لا يعرف عنها شيئا و الثالثة التي يظن أنها هو و هذا يناسب تقديم ثلاثية مونودرامية من خلال ممثل واحد و لكن بشرط تحقق موهبته. و هناك أيضا مصطلح القرين الذي يمكن تجسيده على الخشبة من خلال موهبة الممثل و إمكانياته.. و هناك في علم النفس نظرية العالم يونج التي تقول أن الإنسان ثنائي الجنسية و في كل رجل ذكر و أنثى و في كل أنثى مثله و هو ما سمي بالأنيما و الأنيموس الحس الذكوري و الحس الأنثوي و هذا كان أيضا يمكنه تقديم ثنائية مزدوجة تعتمد على موهبة الممثل نفسه الذي يجسد نفسه.. و لعل أهم الأعمال التي ظهرت مؤخرا عمل الفنان المسرحي الفلسطيني غنام غنام و يحمل عنوان “سأموت في المنفى” ليقدم أهم مونودراما مزدوجة بقدرة الممثل و إمكانياته فهو يتحدث بلسان ما كان يفترض به أن يكونه و لسان ما انبثق من تلك الشخصية و سماها شخصية “البدل فاقد” لكنه قدم الشخصيتين بانسيابية لم يكن فيها تكلف و جاءت بالطبيعة كلياً و استطاع غنام بذلك أن يحقق المعادلة في المونودراما المزدوجة التي تعتمد على الممثل و إمكانياته و موهبته.
غنام غنام في رائعته "سأموت في المنفى" حقق معادلة المونودراما المزدوجة معتمدا في ذلك على موهبته أولاً في الأداء الحركي و الأداء اللغوي فظل من خلال اللغة و قواعدها يتنقل بين شخصية افترضها و شخصية أخرى أسماها كما أسلفت "بدل فاقد" و كل هذا جاء طوعاً ليخدم القضية التي يتحدث عنها العرض المونودرامي و هي "القضية الفلسطينية"، و بنفس الكيفية التي كان غنام فيها هو المؤلف للنص و المؤدي للعرض و المخرج، إنه يستخدم كل ما تعلمه طيلة حياته ليخلق عرضا مسرحيا يشبه أن يكون خلاصة التجربة أو هكذا جاء ضمنياً.

الجمعة، 28 يوليو 2017

كسر القواعد المسرحية فـي مسرح عصام محفوظ

مجلة الفنون المسرحية


كسر القواعد المسرحية فـي مسرح عصام محفوظ

فاتن حسين ناجي - المدى 

ولد الشاعر والكاتب المسرحي والناقد اللبناني عصام محفوظ عام 1939 جنوبي لبنان.. كتب الشعر في بداية حياته الادبية ثم مالبث أن هجر الشعر ليتحول الى المسرح  حيث دفعته هزيمة حزيران الى هجران الشعر والتحول الى المسرح، بعد أن ملأ حقائبه بأجمل دواوين الشعر ((أشياء ميتة))، ثم ((أعشاب الصيف)) (1961)، و((السيف وبرج العذراء)) (1963)، و((الموت الأول)) (1973).
بعدها اتجه الى المسرح والتأليف المسرحي بصورة خاصة، وعمل أستاذاً لمادة التأليف المسرحي في الجامعة اللبنانية، حينها عدّ رائداً  للمسرح اللبناني الحديث على مستوى التأليف في النصف الثاني من القرن العشرين. وكان من اوائل الذين طالبوا بخروج المسرح واللغة المسرحية عن اللغة الشعرية وعن أي قيود درامية أو شكلية يمكنها أن تجعل المسرح يدور ضمن حلقة مفروضة عليه. طالب أن تتحرر اللغة أن تكون عامية محكية لذا قدم اغلب مسرحياته باللغة 
اللبنانية .
قدم محفوظ الكثير من المسرحيات كانت أولها مسرحيته «الزنزلخت»، كتبها عام 1964 وضمنها مقدمة تعد هذه المقدمة البيان المسرحي الحديث رقم واحد. 
في مسرحيته حيث اعلن ولادة اتجاه جديد... في بيانه "ضدّ الاتفاق، ضد التقليدية، ضدّ التفاهة، ضد الكسل، ضد اللامسرح". إنّها حرب تجعل أعماله عند "الحد الفاصل بين النص الأدبي والنص المسرحي... إنني ضد الكلمة الشعرية في المسرح، ضدّ الحذلقة الذهنيّة، ضدّ البلاغة، ضد الخطابة، ضد الغنائيّة، ضد الفكر، ضدّ كلّ ما يقتل الحياة في اللغة المسرحيّة". يرى عصام محفوظ أن على المسرح "أن يتحيز لموقف، وأن يبدأ هذا الموقف من الواقع، مستخدماً أول عناصر هذا الواقع: لغته، اللغة المحكية، لغة الشارع والبيت، لغة القبضة
والشجار".
ثم كتب مسرحيته الثانية ((القتل)) عام (1969) وبعدها ((الديكتاتور )) التي كان اسمها الجنرال واجبر على تغييرها الى الديكتاتور. ومن ثم  ((كارت بلانش)) عام 1970 ثم مسرحية ((قضية ضد الحرية)) (1975)، ومسرحية «التعري» عام (2001) آخر مسرحية كتبها قبل الحرب فكانت "حسن والبيك" وكانت عبارة عن مونودراما. 
بعد ذلك تحول الى الكتابة بعد أن جمع مقالاته في الصحف مؤكداً على الشخصيات الثورية والتمردية التي اعطاها اهمية كبيرة في كتاباته ومن قبلها مقالاته الصحفية لاسيما أن كتاباته تخصصت في ميدان الدراسات الأدبية والكتابات والنقدية في اسلوب حواري تارة واسلوب تراثي تارة أخرى، حيث قدم لنا «سيناريو المسرح العربي في مئة عام» (1981) مستعرضاً فيه التراث المسرحي العربي، ومن ثم وفي مجال المسرح ذاته قدم لنا «مسرح القرن العشرين» في جزأين عام (2002)، وبعدها قدم حواراته و«حوار مع الشيخ الأكبرابن عربي» (2003)، و«حوار مع الملحدين في التراث» (2004)، ربما تجلى رفض القواعد المسرحية في رفضه لأن يكون الكاتب خاضعاً للون ادبي واحد، لذا نراه يتنقل بين الشعر والمسرح والنقد والمقال الصحفي وحتى الكتابات السياسية وايضاً في رفضه للغة الشعر داخل المسرحيات مؤكداً على أن اللغة العامة ولغة الشارع هي الافضل في تقديم الحبكة الدرامية على اصولها التامة. وكسره للتابوهات الدرامية القديمة، حيث كان ضد الخطابة والزخارف اللغوية والصورية داخل العمل المسرحي حتى تكون الصورة النهائية للمسرحية صورة متكاملة من البساطة .
توفي عام 2006 بعد أن قدم للأدب والمسرح عدداً كبيراً من الدراسات والمسرحيات والروايات وحتى في فن الرسم والتشكيل والسياسة أيضاً، فقد بلغ عدد كتبه المطبوعة نحو خمسة وأربعين كتاباً.


الأحد، 23 يوليو 2017

ياراجويا .. ملحمة شعريَّة أوبراليَّة

مجلة الفنون المسرحية


ياراجويا ..  ملحمة شعريَّة أوبراليَّة

د. عزَّة القصَّابي *

نص ياراجويا للشاعر المسرحي عادل البطوسى دراما شعريَّة تنبثق من روح المرأة "يارا" الأنثى التي إنفردت بروح "إستثنائيَّة" تعبِّر عن معاناتها في الحياة التي رسمتها لها الأقدار، حتى أصبحت رمزاً لكل نساء الكون اللاتي قهرتهنَّ العاطفة والحب .. عبر رحلة البحث عن جماليَّات لا تنتهي، بدءً من الحب وانتهاءً بالحلم ..
وقف البطوسي" وقفةً تأمُّليَّةً وهو يرسم مفردات الرؤية البصريَّة ملتمساً من جسد المرأة "أيقونة شاعريَّة" باحثاً عن الجمال السرمدي بواسطة لغة الشعر التي تهفو إلى الإحساس بالجمال .. واستمرَّت تلك العاطفة التي ولَّدها الكاتب في شخوصه بغية الإستمرار والتواصل مع روح "يارا" التي لا تفترض أن هناك واقعاً صامداً يتمثَّل في الرجل "جويا" الذي تخلَّى عنها، والذي لم يمنحها فرصة لتكون أمَّاً، ليستمر ذلك التدفُّق "الإستثنائي" بشكلٍ جماليٍّ وروحانيٍّ يبحث عن مفردات أخرى ليصارع ذاته المنكسرة المهزومة، كما أن ظهور "التماثيل" على المسرح جعلت الشخصيَّة الرئيسيَّة تتماهي معها، باحثةً عن ذاتها تارة، وتحدِّثه وتناغيه تارةً أخرى، وتفتح صفحات ماضيها المجنون المقهور الذي هربت منه مراراً، إلا أنها كامرأةٍ لابد أن  يحاصرها وهمٌ إسمه "جويا" ذلك الرجل الذي ظلَّ يؤرِّقها ليصنع منها طائراً فينيقيَّاً، يشقُّ طريقه في اللازمان واللامكان عبر عالمه الإفتراضي الذي يتمثَّل في "يارا" نفسها .. 
وظلَّ الماضي يلاحق "يارا" متجسِّداً في شخص الرجل الذي لم يحترم أنوثتها وإنسانيَّتها، لذلك إغتال أحلامها كما أجهض جنينها الراقد بين أحشائها الثكلى، عندما حدَّثته عن وليدها ، فكأن أمه تحدِّثه عن ذاتها، وهناك إرتجاع إنساني يرجع الإنسان إلى ذاته وكينونته الأولى .. ظلت "يارا" الأنثى الجامحة في مشاعرها، الباحثة عن ذاتها ومشروع الحب الذي كان الرجل سبباً في  فشله، وسرقة أحلامها، وبدت معتوهه تكلم ذاتها، تمثالها، واقعها المتصدِّع ... تحاول البحث والوقوف ... ولكنها لا تقوى !.. فيما بدا الرجل "جويا" مسكونا  بوجع "العقم"  الذي لازمه الذي ظل سرَّاً مؤلماً يخفيه، وهرب من حبيبته "يارا"، وهرب عن والدته التي تأويه، كان إبناً عاقاً، وأصبح حبيباً معذَّباً يستبيح مشاعر عشيقاته اللاتي كن سيصبحن يوماً ما زوجاته، لذا حكم على ذاته بالعقم من العاطفة والحب والأبوَّة ... وكان عليه أن يسجد في محراب والدته ويبكي كثيراً ويتألَّم ويصرخ ويتمرَّد على ذاته التي لاحقتها الخطيئة منذ أن كان صبيَّاً .. وظلَّ يبكي ويبكي لعلَّه يتطهَّر يوماً ما .. معبِّراً عن ذاته في التماثيل التي ظلَّت صامدة رغم موبقات ماضيه البائس .. 
هكذا ظلَّت "ياراجويا" للشاعر المسرحي عادل البطوسى ملحمة شعريَّة جاءت أقرب إلى "الأوبرا الشعريَّة" التي بحثت  في ذات المرأة، حيث  الخصب، الحب، الجنون ... 


* ناقدة مسرحية ـ مسقط ـ سلطنة عمان

الاثنين، 17 يوليو 2017

التحول من الماهيات الى الكيفيات تصفير السؤال الفلسفي

مجلة الفنون المسرحية

التحول من الماهيات الى الكيفيات تصفير السؤال الفلسفي

د . جبار جودي العُبُودي

انتقل الفكر تدريجياً من التأمل الكيفي الى التفكّر الكمي الرياضي عن طريق التحولات المعرفية الأساسية للعصر العلمي ، بأنتقال العلم من البحث في الماهيات والكيفيات والغائيات الى معالجة رياضية منهجية للطبيعة ، فثقافة الحداثة التقنية أضحت نقيضاً للمنظومة التقليدية للفكر ، إذ تصاعدت هذه الثقافة طردياً في الزمن وبشكل متناسق لعناصر الزمان والمكان تسودها قيم أخلاقية تقوم على التعدد والإنتشار والتسامح ، وتصبح فيها مكانة الفرد متسيدة عن طريق الإنجاز والإستحقاق بعيداً عن قيم الوراثة والإنتماء ، إذ ساد العقل كأساس للقيم العاملة في مضمار التقدم والتغيير والتحرر والتسيير الإجتماعي العقلاني تمجيداً لمستقبل جديد تنشده الإنسانية وتتوق اليه ، ولاتنشغل بالنظر الى الماضي ، فالعلم التقني الحديث حقق تغييرات بنيــوية فكرية كبيرة في كافة المجالات ، وغيّر من علاقة الإنسان بالطبيعة وبالكون الى حدود بعيدة ، وتوالت إرهاصات المفكرين والفلاسفة في اتجاه استشرافهم للتحولات الكبرى التي لاحت بوادرها عن طريق انتشار العلم التقني الحديث ، فما كان يبدو سابقاً سحرٌ وطلاسم أضحى مقدرةً وطاقةً متجددة على الدوام غيّرت وجه الإنسانية من بدائية الى أمم متحضرة بالإنجازات الإيجابية ، على الرغم من الإختلالات التي حدثت في الطبيعة ومن تسخير قوى الدول الكبرى المتقدمة علمياً وصناعياً لإمكاناتها في السيطرة والهيمنة على الشعوب الأدنى تطوراً ، فالعلم لم يعد اليوم ترفـــاً معرفياً بقـــــدر ماهو النموذج الأمثــــــل والأعلى لكل معـــــرفة ممكنة ، وربما أضحى العلــــم الذي قوامه الفكر الحاسب لا الفكـــــر المتأمل ، هو المتسيد في كل الثقافة الإنسانية وعلى مدى عصورها (1) .
ولايمكننا هنا مناقشة الفكر التقني الحداثوي دون الإشارة الى طروحات الفيلسوف الألماني هيدغــــــر الذي اعتبر التقــــــنية جوهر الحداثة والميتافيزيقيا جوهـــــر التقـــــنية إذ خصّ الحداثة بخمسة مميزات أساسية أو ظواهر ثقافية تمهر العصور الحديثة كلها بمهرها وخاتمها وهي (2):
1- العلم بإعتباره بحثاً دائباً واسقاطاً للتصورات القبلية على الطبيعة من أجل ادراك مفاتحها كمياً ورياضياً .
2- التقنية من حيث هي جوهر العلم ذاته .
3- دخول الفن في أفق علم الجمال ، أي تحوله من واقع انعكاسه لنظام العالم الى التعبير عن الذات الإنسانية المتمتعة بالذوق .
4- النظر الى الأفعال الإنسانية بأعتبارها نسقاً يمثل ثقافة وحضارة .
5- غياب المقدس وحضور التاريخ .
فهو يرى ان الحداثة عصر الميتافيزيقيا الذي يتحدد بموقفه الكائن وبتصوره للحقيقة ، وهو يفرد مكانة متميزة للتقنية ويعتبرها ماهية الحداثة ذاتها ، فالعلم الحديث في جوهره تقني أي انه خاضع للمتطلبات والمقتضيات النظرية والعملية للتقنية ، على ذلك فالعلم تقني في جوهره ، والتقنية اطار الحداثة إن لم تكن هي جوهر الحداثة نفسها ، فالتأمل في ماهية التقـــــنية يقودنا الى فهــم الحداثة من حيث أنها العنصر المحدد لها تحديداً كلياً ، إذ كانت التقنيات القديمة عبارة عن آلات وأدوات بسيطة في يد الإنسان يتحكم بها كيف يشاء ، لكن التقنية الحديثة بفضل قدراتها الهائلة والكبيرة أصبحت وكأنها خارجة عن سيطرة الإنسان وقدرته في التوجيه والتحكم بها ، لقد أصبحت التقنيات الحديثة مجموعة من المقدرات الضخمة التي تخضع لمنطقها الداخلي وتتطور بفعل حاجاتها هي لا كما يشتهي الإنسان ويريد ، بل انها تنفلت منه بشكل مستمر وربما تنقلب عليه ، فالتقنية – حسب هيدغر- ليست هي مجموعة الأشياء والإختراعات التقنية والآلات بقدر ماهي ذلك الموقف التقني ، انها موقف وميتافيزيقيا ، نمط لعلاقة الإنسان بالأشياء التي تحيطه ، ولاتطلق عبارة العصر التقني لأنه يحفل بالآلات وبالتقنيات بل لأن الأشكال التقنية تأخذ دلالاتها من الماهية التقنية للعصر(3) ، إذ يؤكد هيدغر دائماً على أن جوهر التقنية هو ميتافيــزيقيا ، إذ ان هذه الكينونة التقنية الميتافيزيقية شيء لايستطيع الإنسان التحكم فيه ، بل أصبح منبهراً أمام قوة التقدم التقني الذي يحاصره من كل جانب وكأنه شيء مستقل عنه ويتجاوز ارادته .
التكنولوجيا :
لقد بدأت الدراسات الجمالية التمييز والفصل بين شكلين من الإنتاج الإنساني يخص الموضوع الجمالي والموضوع الصناعي أي الإنتاج الفني والإنتاج الصناعي لأن الغاية من الأول هي اللذة الجمالية بينما تكون المنفعة هي خيار الإنتاج الثاني ، ومع التقدم والتتابع المستمر للتكنولوجيات المعاصرة بدأت الفروقات تضيق مابين ( الفني / الصناعي ) خاصة عندما ارتبطت الجمالية بالتكنولوجيا عن طريق المادة الفنية الوسيطة إذ أسهمت الوسائط الجديدة في تطوير قطاعات مهمة مثل الطباعة والإستنساخ للأعمال الفنية وشرائط الموسيقى والسينما ، وساهم ذلك في انتشار الأعمال الفنية بشكل واسع إستهلاكياً ، وقد أدى الى خوض مضمار النقاش والجدل بين فئتين احداهما يمثلها أدورنو الذي يجد في الندرة والتفرد الأساس للإنتاج الفني ، وثانيهما فالتر بنيامين الذي يجد في التكنولوجيا وسيلة لتعميم الإنتاج الفني على المجتمع (4).
تبعاً للعلاقة المستحدثة بين الفن والتكنولوجيا عند بنيامين فأن وظيفة الفن قد طرأ عليها تغييرات فبعدما كان الفن مرتبطاً بالدين والأيديولوجيا في العصور الماضية أصبح مرتبطاً بالسياسة وبمساعدة أجهزة الإتصال والنسخ الحديثة ، كذلك فأن طروحات أدورنو بشأن الندرة والهالة التي ينشدها للعمل الفني فأن فيها نتيجتين اثنين : الأولى سلبية لأنها تُحدث إفقاراً للتجربة ولايراها الا القلة القليلة بناءاً على التقاليد الفنية ، والثانية إيجابية لأنها تيسّر تسييس الثقافة ودمقرطتها ، لذلك فأن ظهور أشكال جديدة للفن يبيّن عدم تعارضه مع التكنولوجيا ولكن الفن نفسه كفكرة تاريخية كانت عرضة للتحولات ، لذلك نجد بنيامين يعرّف العمل الفني في ثنائية إذ يضمّنه قيمة سحرية وفي الوقت نفسه قيمة استعراضية (5) .
ان التطور الكبير الحاصل في مجال التكنولوجيا قد أثّر إيجاباً في الحقل المسرحي الى حدود كبيرة ، إذ مهّد الطريق لأكتشاف طرق وآلات وإمكانيات جديدة في التقديم الإبداعي والخلق الفني ، إضافة الى تحسين ظروف التلقي ، إذ أصبح بإمكان المُشاهد أن يرى العرض المسرحي في ظروف انسانية أفـضل في ظل الإمكانات والتجهيزات الحديثة للمسارح وعلى كافة الأصعـــــدة مثل الصوت والصورة والمسافة وبما يتوائم مع روح العصر (6) .
قام البعض من الباحثين بإدراج التقنيات التكنولوجية التي شهدتها المسارح في العصور الأولى من تطوره في خانة التقنيات السهلة والبسيطة ، أما ماجرى لاحقاً من تطور تكنولوجي في المسرح الحديث فهو من النوع المعقد ذي السرعة والإيقاع الشديدين ، حتى أنه أصبح من الصعب مواكبته ومجاراته من قبل المسارح الصغيرة والمتواضعة ، إذ أصبحت التكنولوجيا هي الأداة الرئيسية التي تستطيع تحقيق الأحلام الفنية والخيالات والرؤى التي يحلم بها المخرج المسرحي والسينوغراف ، إذ أصبحت التقنيات الحديثة في جوهرها تحقيقاً لخيالات ورؤى المسرحيين الأوائل ممن كانوا يسعون الى تجديد المسرح شكلاً ومضموناً (7) ، فالتكنولوجيا هي العصا السحرية الآن لما تستطيع تحقيقه من خلق عوالم سرمدية حلمية كانت خيالاتها تشابه السحر أحياناً ، إذ أن العامل الغالب في القرن العشرين هو نهضة التكنولوجيات الكبرى والراقية فقد كانت الفترة المبكرة من العلم الحديث مسبوقة ببداية الرحلات حول العالم واكتشاف العالم الجديد ، ونهضة العلم بوصفه معارف متميزة مصحوباً بعصر الآلة في الثورة الصناعية ، بينما يشاهد القرن العشرين العلم وقد أصبح علم تقنية ( Technoscience ) بشكل مكتمل ، حتى أصبح علم التقنية هو المحرك الذي يقـود التكنولوجيا الحـديثة ، ويطورها على نحو متميز عن أيــة تكــــنــــولوجيات تقـليدية أو قديمة (8) .
ان بوابة التطور التكنولوجي قد انفتحت على مصراعيها في المائة سنة الأخيرة من عمر العالم عبر العديد من العلماء والمفكرين الذين نذروا أنفسهم في سبيل تقدم البشرية الى مراحل علمية متقدمة ومن أجل فرض السيطرة المنهجية على الطبيعة وفك الشفرات والطلاسم الكونية ، ولقد كان غاليلو من أوائل الأوربيين ” الذي جعل العلم متجسداً تكنولوجياً ، وفي استخدامه للأدوات والآلات لإجراء التجارب ولم يكن غاليلو متأملاً يونانياً ولكنه كان نموذجاً حديثاً لعلم التقنية “(9) .
لقد دأب على تصميم واختراع آلات ومعدّات حديثة لقياس أبعاد الكون وكيفية تشكّل العالم ، وهذا لم يأتِ من فراغ وإنما بالتفكّر المستمر في أبعاد الطبيعة وأسرارها ومحاولة ترويض مدياتها التي كانت غامضة وعصية على الفهم ، وكل هذا جاء من الخيال الواسع المتأمل في الماهيات والمتحول من فعل التأمل الكيفي الى الجانب المنهجي والرياضي ، إذ يشير وايتهيد في كتابه العلم والعالم الحديث بأن ” السبب في كوننا على مستوى من الخيال الرائع لايرجع الى اننا لدينا خيال متوهج ، ولكن لأننا لدينا آلات جيدة ، والشيء الأكثر أهمية في العلم الذي حدث في الأربعين سنة الأخيرة هو التقدم في التصميم الآلي أو الأداتي “(10) ، وأصبح خيال العلماء والمفكرين مصحوباً بجودة مختراعاتهم مما أدى في المحصلة الى حصول البشرية على الرفاهية التكنولوجية التي تسببت بالسيطرة الكاملة على الكون والطبيعة الى مديات كبيرة .
هذا التقدم في التصميم وفي المستوى المتطور للآلات جاء بفعل التفكير الإنساني المتميز الذي يحاول السعي الدؤوب لأجل سعادة الإنسان بأستخدام المعرفة ، ولقد ابتدأ الإغريق ذلك الفعل من أجل تطوير آلات الحرب خاصتهم وأيضاً آلات وأدوات المسارح التي كانت على قدر كبير من الأهمية لديهم ، وهم لم يكونوا يتمتعون بمهارات تكنولوجية أو هندسية متطورة أو ضخمة إذ أنجزوا عدداً من المخترعات المرتبطة غالباً ، كما أسلفنا ، بالحرب وبالمسرح مثل آلات رفع الآلهة وخفضها وتطييرها في الفضاء ، وكانت غالباً معظم رؤاهم التكنولوجية مرتبطة بالإحساس الجمالي لديهم (11) .
لكن مايود المؤلف التأكيد عليه هو أن هنالك وللوهلة الأولى تقاطعاً فكرياً وعقلياً مابين التصورات الفلسفية عن التقنية وماتصدره هذه التقنية من هيمنة وسوء وسيطرة ومابين عظمة الإكتشافات التكنولوجية التي يسرت سبل الحياة الإنسانية بأتجاهات الرفاه والحضارة والمدنية ، ومن الممكن التوصل الى ان المخاوف التي طرحها البعض من الفلاسفة والمفكرين تجاه القدرات الكبرى للتقنية المهيمنة على عالم اليوم فيها جانبين أحدهما السلبي الذي يتمثّل في تصدّر مشاريع السيطرة والهيمنة التقنية على العالم وتسييره وفق مشيئة الدول الصناعية الكبرى ، بمعنى تصدير الحــــــــروب والكوارث والأزمات الإنسانية الى الشعــــــــــوب الأدنى تطوراً ، وهذا نوع جديد من الإستعمار يتمثــــــّـــل في السيطرة على اقتصاديات تلــــك الشعوب مثلاً والجانب الآخــــر هو الإيجابي الذي يتمثّل في الوجه المشرق للمخترعات التكنولوجية للتقنية التي أسهمت في تقدم مسيرة البشرية تجاه تفكيك أسرار الكون ومعرفته وتيسير سبل العيش فيه وتحقيق رفاهية المجتمعات الإنسانية ، إذ أسهمت التكنولوجيا المتطورة في اعلاء الجانب الفني للتقنيات المستخدمة في المسارح المختلفة في كل دول العالم ، إضافة لتطوير مختلف قطاعات الحياة الأخرى .

الهوامش:

(1) يُنظر : الحيدري : الحداثة ومابعد الحداثة ، مصدر سابق ، ص124 ومابعدها .
(2) يُنظر : محمد سبيلا : الحداثة ومابعد الحداثة ، مصدر سابق ، ص48 .
(3) يُنظر : المصدر السابق ، ص50 .
(4) يُنظر : جمال مفرج : استطيقا أدورنو أو الفن بوصفه نقداً ونضالاً ، في كتاب ثيودور أدورنو من النقد الى الإستطيقا ، مجموعة مؤلفين ، الرباط – الجزائر : ( دار الأمان – منشورات الإختلاف ) ، 2011 ، ص 106 .
(5) يُنظر : المصدر السابق ، ص 108 .
(6) يُنظر : فاضل الجاف : المسرح والتقنيات الحديثة ، شبكة المعلومات العالمية ( الأنترنت ) :
http// maakom.com/site/erticle/3448 ] [
(7) يُنظر : المصدر السابق .
(8) يُنظر : دون إد : مدخل الى فلسفة الكنولوجيا ، مصدر سابق ، ص 58 .
(9) المصدر السابق : ص68 .
(10) Alfred North Whitehead : Science and the Modern World ( NEWYORK ): Harperand Row , 1972 , P. 107 .
(11) يُنظر : دون إد : مدخل الى فلسفة التكنولوجيا ، مصدر سابق ، ص65 .

السبت، 15 يوليو 2017

"هاملت".. روح نضرة تستهدف الشباب

مجلة الفنون المسرحية

"هاملت".. روح نضرة تستهدف الشباب

السبت، 8 يوليو 2017

سوسيولوجيا السينما: الصورة والمجتمع

مجلة الفنون المسرحية

سوسيولوجيا السينما: الصورة والمجتمع


الصديق الصادقي العماري

تقديم
تعد السينما فنا من بين الفنون المختلفة والمتنوعة، التي خرجت من رحم المسرح بوصفه أبا لجميع الفنون، وقد عرف هذا الفن مجموعة من التحولات العميقة في مساره، بدأ من تجارب الأخوين لوميير كرائدي اختراع جهاز العرض السينمائي، مرورا بالسينما الصامتة خاصة مع شارلي شابلن، ثم المزج بين الصورة والصوت، فقد ″كانت المتغيرات التي حدثت للسينما في العالم منذ 1945 تغيرات تدريجية في معظمها، فلم يكن هناك حدث بعينه يمكن مقارنته بالانتقال السريع نحو الصوت الذي اجتاح العالم حوالي عام 1935‟ . وخلال هذه المحطات بلورت السينما نضجا على مستوى الممارسة والتنظير خاصة مع الموجة الجديدة الفرنسية .La nouvelle vague و ″قد يتبادر إلى الذهن أن السينما مجرد آلات تقنية لعرض الصورة، ولعب فنية تصلح لإيهام المتفرج وجعله يتماهى مع ما يشاهد من صور متحركة، معتقدا أن المشاهدة الفنية صورة تعكس الواقع بشكل محايد، تستثمر فيها رأسمالا ماديا وبشريا، وتستغل فيها أيضا آلات تكنولوجية متعددة كآلة العرض، وأجهزة التصوير، وما يرتبط بعملية إنتاج الفيلم كالإضاءة، والمونتاج، والميكساج....‟، كل هذا مهم و أساسي في العملية الفنية، غير أن هناك وجه أخر للسينما على اعتبار أن الفن السينمائي إنتاج ثقافي يتبلور داخل مجموعة من الظروف الاجتماعية، كما أنه فعل اجتماعي يتفاعل فيه ما هو سياسي واقتصادي وإيديولوجي، كذلك الرغبات الذاتية والطموحات الشخصية، إضافة إلى الوعي الجماعي، كما تتداخل فيه التشكلات المعرفية بالجمالية...
يستأثر الفن السابع باهتمام العديد من المهتمين والدارسين والباحثين والتقنيين.. وذلك نظرا لأهميته المتزايدة في توفير فرجة متميزة، ثم قوته على التوثيق بالصورة والصوت والحركة للحدث الاجتماعي والسياسي والفكري.. فالسينما أصبحت معملا لصنع الأحلام والأساطير. إن الحدث الاجتماعي تكتنفه عوامل تقنية وفكرية تؤثر في صنع الفيلم الذي يؤثر بدوره على الجماعة والمجتمع والفرد. فقد كان الفن–عامة- ولا يزال، مجالا يستطيع فيه المرء، بمعزل عن بقية العالم، أن ينظم حياته الروحية، وينغمس في لذات روحية ذات طابع خاص تماما. مما يدفعنا إلى طرح مجموعة من التساؤلات، نذكر من بينها: ما هي الإشكالات المحورية التي تطرحها السوسيولوجيا كعلم على السينما كفن؟ وما علاقة السوسيولوجيا بالسينما؟ وما هو المسار الذي قطعته سوسيولوجيا السينما لكي تصبح فرعا من فروع السوسيولوجيا؟ وهل يمكن التفكير في السينما من غير كونها فنا صرفا؟
سوسيولوجيا السينما: الإشكالية و التحديد
للتعبير المرئي أساس اجتماعي، فهو يحدد رؤية للمجتمع، لذلك يعتبر هذا التعبير ممارسة ثقافية، فالثقافة والمجتمع من المفاهيم الأساسية في العلوم الاجتماعية، والعلاقة وثيقة بين المفهومين نظريا وعمليا، فالثقافة لا توجد إلا بوجود مجتمع والمجتمع لا يقوم إلا بالثقافة. فهي التي تمد المجتمع بالأدوات والأساليب اللازمة لإصدار الحياة فيه . فالأسئلة التي تتعلق بالأسباب الموضوعية والذاتية الكامنة وراء تكون واستمرار وتغيير الإنتاج الثقافي، تجعلنا بصدد سوسيولوجيا الثقافة، لأنها ″تمكن علماء الاجتماع من معرفة مفاتيح التغير الاجتماعي، وسماته، أي استخدام الثقافة ككاشف للعلاقات الاجتماعية، وتغيراتها‟ ، ومن هذا المنطلق لا يجب أن ننظر إلى الثقافة كعملية تجريد للواقع، بل كسيرورة اجتماعية، وتفاعل بين الإنسان ومحيطه. فمفهوم الثقافة يتضمن كل ما يمكن أن يعلم عن طريق العلاقات الإنسانية المتداخلة، كما يتضمن اللغة والعادات والتقاليد والنظم الاجتماعية جميعا .
فالثقافة تجبر الفرد على تجاوز الطبيعة وكل ما يميل إلى ما هو بيولوجي، من أجل بناء أنساق جديدة مادية ورمزية متكاملة تتجلى في كل ما يصنعه الإنسان في حياته العامة وكل ما ينتجه العمل من أشياء ملموسة، وكل ما يحصل عليه الناس عن طريق استخدام فنونهم التكنولوجية، كما تشمل من جهة أخرى مظاهر السلوك التي تتمثل في العادات والتقاليد، والتي تعبر عن المثل والقيم والأفكار والمعتقدات.
وتتجلى خصوصية الإبداع السينمائي في علاقته بالمجتمع، إذ لا يمكن فهم السينما أو تفسيرها معزولة عن المجتمع والعلاقات التي تربط بين المنتجين والمستهلكين لهذا الإبداع الثقافي، ومن هذا المنظور فإن كل إنتاج ثقافي كيفما كان يرتبط بهذا الشكل أو ذاك بالمجتمع ، مما يدفعنا للقول أن المساهمة السوسيولوجية التي تركز على العوامل الاجتماعية والثقافية عند دراسة المسائل الثقافية هي مساهمة فريدة من نوعها.
السينما تعكس المجتمع بكل تفاعلاته، وتحولاته، إذ ما ينطبق على الأدب على سبيل المثال ينطبق على السينما، التي أصبحت محور اهتمام بعض السوسيولوجين والأنثروبولوجين، وهذا الاهتمام نابع من اعتبار السينما حقلا خصبا يجمع الواقع بالخيال، كما يجمع التقنية بالأدب، والفكر بفنون الفرجة، باختصار تعكس السينما الواقع بكل تجلياته وتستعمل كل التعبيرات الفنية و الأدوات التقنية وطرق التواصل في كل معانيها، وكانت ولا تزال السينما في قلب المجتمع.
ومن السوسيولوجين الذين كانت لهم مساهمات في هذا المجال، نذكر الفرنسي Emanuel Ethis  الذي يرى أن السينما فن المشاركة «L’art de partage»، مادام هو الفن الأكثر شعبية في كل بلدان العالم، وهو بالإضافة إلى ذلك فن للشهادة، شهادة ثقافية بامتياز.  إن دراسة العلاقة بين السينما والمجتمع لا تتحدد فقط في ما تحمله السينما من مضامين اجتماعية، بل في خصوصياتها التي تتميز بطقس أساسي للفرجة الجماعية. والجماعة  «le groupe»تحضر من بداية ولادة الفيلم السينمائي إلى لحظة خروجه إلى القاعات، مرورا بمراحل الإنتاج والإخراج والمونتاج، والتحميض والتوزيع.....فما يميز الفيلم هو الطابع الجماعي. أما الخصوصية الثانية لفن السينما، هو ″فن تتفاعل فيه كل الفنون الأخرى كما تغذيه كل اللغات الناطقة منها وغير الناطقة، ومن غير المنطقي أن تكون السينما خارج المجتمع، إنها امتداد فاعل ومتفاعل مع كل مكونات الثقافة، امتداد في المسرح و التشكيل والموسيقى والتصوير والأداء التعبيري، والغناء وفي الكتابة الأدبية، امتداد في هندسة الصوت والصورة والضوء والعمران، في الاقتصاد والسياسة والقانون والتسويق، في التاريخ أيضا والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع و الأنثروبولوجيا، لذلك يجب الكف عن اعتبارها وسيلة للتسلية الشعبية‟ .
كما اعتبرت آن ماري لوران  Anne Marie Laurran   أن السينما كتعبير ثقافي تتخذ من الصورة وسيلة أساسية لإبراز مجموعة من التمثلات حول الواقع، كوثيقة سوسيوثقافية تعتمد الرصد البصري في تتبع الظواهر الاجتماعية والثقافية، وكوسيط لا محيد عنه في التأثير على الجمهور. إن علاقة السينما بالمجتمع تتحدد من خلال عدة مستويات ; أولا مستوى الإنتاج الجماعي والذي يحدده بيير سورلان هكذا ″ جماعة من الناس تشتغل على منتوج معين (فيلم) ، وعندما نقول منتوجا لا بد من إدماج كل من يساهم فيه من قريب أو بعيد، مما يعطي لهذا المنتوج الصفة الجماعية. ثانيا مستوى التعبير الفني والثقافي، والذي يتحدد من خلال وضع مجموعة من الآلات  في خدمة فكرة أو أفكار معينة تنهل مضمونها من المجتمع وتستند إلى مهارة المخرج ودوره التنسيقي في الربط بين الصورة والواقع ، ثالثا مستوى التأثير الجماهيري الذي يتحدد في قدرة السينما على التأثير على مختلف شرائح المجتمع، وهنا يصح تسمية السينما فنا جماهيريا بامتياز لأنها توظف سلسلة من المؤثرات لجعل المتفرج مستهلكا، وتحويل حاجته للفرجة، إلى رغبة خاضعة دوما لسحر الصورةimage والخيال imagination ، وأخيرا مستوى الشهادة، وفي هذه الحالة ″ تصلح الأفلام كوجهات نظر حول حقبة معينة وكشهادات حول ذهنية معينة ،  هذا النوع الذي يتخذ معيارا أساسيا للربط بين السينما والمجتمع، خاصة و أن سوسيولوجين سابقين اتخذوا من السينما مؤشرا واضحا للتأكيد على التحولات الاجتماعية والثقافية . إن الشهادة لا يمكن أن نقول أنها مقصودة، كفعل ثقافي كما يتجلى في الأفلام الوثائقية، بل في كثير من الأحيان لا يمكن الانتباه إليها إلا حين تصبح تراكما ملموسا وملاحظا.
السينما والسوسيولوجيا: أي علاقة؟
الفيلم السينمائي وثيقة اجتماعية مهمة تساهم في رسم قوانين حركة وديناميكية المجتمع وفهم طبيعة العلاقة الجدلية بين الإنسان والمجتمع. فالفيلم لم يعد يضع وجها لوجه ظواهر عالم متجانس من الموضوعات، بل عناصر من الواقع غير متجانسة تماما؛ خاصة وأن ميكانيزمات الهوية الاجتماعية قد أصبحت تتحدد بشكل متسرع: كل علامة أو أي عنصر يدخل في تشكيل الصورة، يحمل معه قوة مؤلمة وحقيقية للحقيقة الراهنة .  إن السوسيولوجيا كعلم ينقل الواقع ويفسر الظاهرة الاجتماعية بالعودة إلى دراسة أسبابها ونتائجها؛ لا تعدو أن تتقاطع مع الوثيقة الفيلمية بصفتها تؤسس لخطاب يكشف الواقع ويعريه. إن الصورة تؤسس علاقة بصرية مع الواقع مع احترام الأماكن والأحداث والأشخاص. 
إن السينما كتعبير اجتماعي، قادرة عموما على تناول المواضيع التي تعبر عن حاجات واهتمامات الناس، سواء بشكل واقعي أو تخيلي. فالسينما فن جماهير إلى أبعد حد، بمعنى أنها قادرة على الاتصال بالجماهير، قادرة على أن تتحدث بلغتهم، قادرة على أن تنقل الواقع إليهم. السينما أيضا محصلة الفنون جميعها، بعناصرها من صوت وصورة، من الكلمة والموسيقى. قادرة أيضا على تبسيط الأمور . وبما أن الصورة السينمائية لا توثق إلا الأشياء المحسوسة والمجسدة فإنها تظل واقعية، والواقع هو ما تتطرق إليه السوسيولوجيا كعلم يهتم بتحليل الوقائع الاجتماعية ودراستها. إن السينما هي ظاهرة معقدة لم تدرك أهميتها في حياتنا إلا بشكل تطوري ، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أهمية السينما في حياة الشعوب. فقد أصبحت تلعب دورا لا يمكن إغفاله لأنها تؤمن الحفاظ على جودة صورة ما ونشرها، ثم تساعد على نشر الثقافة، وتبرهن على الاختلاف والأصالة بالنسبة للبلد المنتج.
السينما وسيلة مثلى لتقديم صورة مجتمع ما لدى مجتمعات أخرى. فالفعل السينمائي هو قبل كل شيء فعل اقتصادي وثقافي. ولعل هذا هو السبب في تسابق العديد من دول العالم إلى النهوض بهذا القطاع، لأن الجميع قد أدرك الأهمية القصوى للصورة في العصر الذي نعيشه، فهو من جهة يصدر قيمة عبرها، وتذر أموالا طائلة، والمثال الملموس الذي لا يحتاج إلى تعليق هو نموذج الصورة الأمريكية، فعائداته تعد بملايير الدولارات، وكمثال على ذلك، ما وصل إليه فيلم "Titanic"  للمخرج جيمس كاميرون. إن الشعب الذي لم يصنع صورا عن ذاته محكوم عليه بالانقراض، فالصورة نوع من التأريخ للسيرورة الاجتماعية في واقعها اليومي، لأن التاريخ الاجتماعي للشعوب يسجل من خلال أعمال و إنجازات أفراد هذه الشعوب.
فعندما تخلت السينما العربية مثلا عن معانقة مشاكل الشارع العربي نظرا لتضييق الخناق عليها، كان الجميع يستنكر ذلك، ″إن تلك المرحلة من مسيرة السينما العربية، تميزت بانعدام الالتزام الاجتماعي والسياسي على مستوى الجماهير، مثلما كانت خاضعة للضغوط والعراقيل الاستعمارية والرجعية. إذا كانت السينما قد عجزت في التعبير عن الواقع الحقيقي المحلي لأقطارها، فإنه لم يكن من المتوقع أن تعبر عن الهم القومي الأكبر المتمثل في الصراع العربي-الصهيوني‟ .
فالسينما مطالبة بأن تكون في قلب الأحداث رغم كل شيء. فهي وسيلة تعبير جماهيرية يجب أن تنبع أساسا من نظام الإنتاج والتوزيع والعرض ومن غياب الحريات الديمقراطية على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي، وتنتج أيضا عن الوضع الثقافي لغالبية الجمهور وخواصه النفسية وتعوده على السينما السائدة وتأثره بها، كما يتشكل ذوقه ومفاهيمه بالاستناد إليها. وبما أن السوسيولوجيا علم ينصهر بالمجتمع وقضاياه، فعالم الاجتماع المهتم بالصورة السينمائية يجب أن يكشف التشكلات الرمزية والظاهرة لأية صورة. ففي الدول العربية أو في دول العالم الثالث، نحن نخاف –كما يقول محمد المعنوني- أن نظهر صورتنا الحقيقية ونعرضها أمام الناس، لقد شكلنا لأنفسنا صورة بعيدة عن الصورة الحقيقية التي نعيشها، وانطلاقا من الخوف، فإن معظم المخرجين يلاقون صعوبات من خلال ممارسة عملهم . والسينما أمام هذا الواقع مطالبة بأن تكون في قلب الأحداث ليس بالأسلوب التوثيقي والتسجيلي فقط، بل بجميع أساليبها المعروفة. خاصة وأن كل نظرة تقدم حالة معينة، شرطا اجتماعيا، مسار حياة، هيئة وتصرف إنسان يقدم نفسه. إن الحقائق والأحداث التي يصورها الفيلم السينمائي لها فائدتها في النهوض بالمجتمع وكشف عيوبه، فهي تساعد على إرساء خطط التنمية الاجتماعية التي ترمي إلى تغيير بنى المجتمع أو تقويضها نظرا لعدم مسايرتها للعصر مثلا لذلك. فالسينما لا يجب أن تتماطل عن دورها وأن تكون خارج دائرة الصراع الاجتماعي، وإن تنقل هموم جميع الفئات. 
لقد وقع الناس في خطأ الاعتقاد بأن الفن الذي يصور حياة البسطاء يستهدف أيضا البسطاء من الناس، على حين أن الحقيقة هي عكس ذلك، والذي يحدث عادة هو أن فئات المجتمع ذات الأفكار والمشاعر المحافظة هي وحدها التي تبحث في الفن عن صورة لطريقتها الخاصة في الحياة، وعن تصوير لبيئتها الاجتماعية الخاصة. أما الطبقات المضطهدة الساعية إلى النهوض، فإنها تود أن ترى تصويرا لأوضاع الحياة تود هي ذاتها أن تتخذ منها مثلا أعلى تستهدفه، لا لنفس الأوضاع التي تود التخلص منها . السينما تلعب دورا مهما للحفاظ على وحدة وترابط المجتمع الواحد ذي العالم المتعدد الأعراق والإثنيات والثقافات لكي يظل دائما موحدا. إن السوسيولوجي مطالب هنا بالتكيف منهجيا مع الموضوع، حيث يتوجب عليه –ونفس الشيء بالنسبة للمهتم بالأخلاق- بأن يتعلق بالدلالة العميقة للمنهج.  إن مساءلة السينما لتحديد ملامح المجتمع تظهر لنا من الوسائل الحديثة جدا، وذلك احتسابا لغنى الصورة وتعدد دلالاتها. فالسينما فضلا عن كونها أداة تواصل، فهي الوسيلة الناجعة التي تتيح للوعي الجمعي التعبير عن طريق مناهج الثقافة ، وتمرير خرافاته بإلحاح إلى جميع الحضارات.
إن علماء الاجتماع يتوفرون على إمكانية تدارس السيرورة السينمائية للواقع. الدراسة السوسيولوجية العملية تشخص حالة السوق السينمائية وتتدخل في دراسة الممارسة والتسيير السينمائي وتوزيع الأفلام ونوعيتها والجمهور، مما يعوض الخطط القديمة ومبادئها التي تعتمد على الموضوع والتي تجعل كاتب السيناريو والمخرج يتكلفان بإبداع فيلم حول موضوع جاهز ومعطى لأنه ببساطة "قد جال برأس" أحد البيروقراطيين .
إن بحث الجمالية في السينما أو في أي مجال فني آخر –بالنسبة لعالم الاجتماع- يحتم النظر إلى الظاهرة الفنية على أنها وليدة حضارة وتاريخ معينين، تطبع بطابع اجتماعي وتاريخي محدد في كل فترة أو عصر، وهي بذلك تعتبر تلخيصا مركزا لقيم ثقافية فكرية وأخلاقية محددة، فالفن إبداع بشري يتفجر من خلال تفاعل البشر مع الطبيعة، وتفاعلهم فيما بينهم سواء في إطار ثقافة واحدة أو في إطار تفاعل ثقافات متعددة ومختلفة . إن الفعل السينمائي هو وليد النبضة الاجتماعية، يتأثر بالمجتمع ويؤثر فيه في قالب جدلي تكاملي وتبادلي. فالسينمائي لا يصور إلا ما هو كائن –إذا استثنينا أفلام الخيال والمؤثرات الخاصة- ولا يبتكر شيئا على الإطلاق، فالحقيقة أمامه، ويجب أن يتبعها كما هي في العالم، مثلا: العصفور الذي يغرد في الخامسة صباحا سيكون هو نفسه وليس واحدا آخر في الصورة . إن الحقيقة تؤكد قوتها الخاصة في الصورة عندما تأتي لتنقص من أهمية الحبكة الدرامية أو يتداخل عمل الكاميرا بالواقع. قد نقول بأن الواقع، أو بالأحرى الواقع الاجتماعي بصفته يشتغل كحقل بصري، يصبح مكانا للمرجعيات، لكن أيضا لتدخلات عديدة، أي عبارة عن مكان تتصادم فيه مجموعة تجارب فردية وعائلية، محركا لمجموعات مهمة وكاملة، منظمة بصفة مؤقتة أو العكس ، إذ يقول "سورلين بيير" في هذا الصدد : تتيح السينما إمكانية التمييز بين المرئي واللامرئي، وعبر ذلك إعادة التعرف على الحدود الإيديولوجية والتمثل خلال فترة معينة. أو عكس ذلك، فالسينما تكشف ما يمكن أن نسميه "نقط التأمل"، أي الأسئلة: الآمال والآلام .
إن سوسيولوجيا السينما تضم دراسة الفعل السينمائي (البنية التحتية والجمهور) والفعل الفيلمي، مع افتراض التحليل الاجتماعي للمنتوجات السينمائية. فسوسيولوجيا السينما تفترض أيضا تحديد الفاعلين والمساهمين وذلك من خلال الجهد المبذول لمعرفة العلاقات الاجتماعية. إنها تتطلع إلى تأسيس علاقات التآلف بين المنتوجات الفيلمية وبيئاتها السوسيو-اقتصادية .
لقد حاولت السوسيولوجيا منذ ظهورها الانفتاح على كافة المجالات والحقول الفكرية والعلمية والأدبية والفنية فأصبحت لها فروع ثابتة أثرَتِ الساحة العلمية بمجموعة من البحوث القيمة في بعض المجالات، ومن بينها السينما، حيث أصبحنا نقرأ ونطالع كتبا ومقالات وأبحاث تتناول سوسيولوجيا السينما كفرع من فروع السوسيولوجيا. هذه المراجع يتطرق أصحابها إلى العلاقة الكائنة بين علم الاجتماع والفن السابع، لكن ما نريد التركيز عليه وفصل المقال فيه، هو أن سوسيولوجيا الفيلم تختلف عن سوسيولوجيا السينما، أي من حيث دراسة الجماهير، فهي تبحث في المنتوج السينمائي عن الحالات الأكثر انتشارا (السائدة) في العلاقات بين الأفراد . إذا كانت سوسيولوجيا السينما بدراستها لمختلف حقول المهن السينمائية تأخذ بعين الاعتبار البنيات والتمثلات الاجتماعية التي تشكل الإطار الصعب، واضعة بذلك حدا فاصلا لـ"ممكنات" الإبداع السينمائي؛ فإن التحليل الاجتماعي للأفلام يتيح مساءلة الصور السينمائية التي تشوه الإطار البديهي، وتزيل الحجاب عن بنية المتخيل والنمطيات والتطابقات الخاطئة.. إن الفيلم هو قبل كل شيء إخراج اجتماعي، عرض لعالم، والصورة الفيلمية تفهم كانعكاس لغياب ما. إن الصورة هي حضور معاش وغياب واقعي، إنها حضور وغياب . من هنا يمكننا أن نستشف العلاقة الكائنة بين السوسيولوجيا والسينما، والفروق الموجودة بين فروع سوسيولوجيا السينما، خاصة ما تعلق بسوسيولوجيا الفيلم وسوسيولوجيا السينما عامة.
إن الواقعية قد ساهمت في إنماء السوسيولوجيا كعلم يبحث في الواقع ويتخذ منه مختبرا لفرضياته واستخراج تنظيراته وتطوير مناهجه. مثلا، لقد بدأت عدة عناصر تظهر للوجود عند المدرسة الإيطالية الشابة في فترة التحرر: الرجال، التقنيات، الامتدادات الجمالية. لكن الوضعية التاريخية والاجتماعية والاقتصادية قد سبقت فجأة الأطروحة التي جمعت عدة عناصر أصيلة . فالواقعية هي كل شكل للإبداع ينظر إلى إعادة إنتاج الحقيقة، إلى التعبير عن نظرة وفية للواقع.. في السينما، الواقعية هي منهج إيديولوجي مشروط بوسائل تقنية ومالية خلال لحظة تاريخية معطاة . انطلاقا من ذلك نستطيع القول بأن الواقعية مرتبطة بزمان محدد وتتطلب إمكانيات معينة. ففي المغرب العربي، ارتبط ظهور الواقعية في السينما المغاربية بأواخر الستينيات في فترة عرفت بنهوض كبير لحركات التحرر العربية والعالمية؛ ودفعت هذه الوضعية إلى تغذية الروح الوطنية لدى المثقفين ومن بينهم الفنانين الذين جعلوا من الواقع الاجتماعي والسياسي مجالا يستمدون منه مواضيع إنتاجاتهم.
الفن من الصنعة إلى المجتمع
الفن جزء من الثقافة فهو يمثل الجانب الخاص بعمل الإنسان في مقابل الجانب الذي يرتبط بالطبيعة ، ومن هذا المنطلق يتشكل الفن من الممارسة الإبداعية للإنسان، كما أشار إلى ذلك ″أندري جيدا‟ إن الشيء الوحيد غير الطبيعي في العالم هو العمل الفني . فإن للفن قواعده وضوابطه كما أن للطبيعة قوانينها، فهو ″استخدام خاص للمهارات والخيال في إبداع و إنتاج موضوعات وبيئات وخيرات يشترك فيها الفنان مع الآخرين الذين يشتركون بدورهم فيها مع بعضهم البعض‟ ، فآثار الفن انبثقت من المجتمع وفق سيرورة واتخذت في البداية من الطبيعة منطلقها الأول، فلا يمكن الحديث عن الفن دون الرجوع إلى بدايته الأولى وعلاقته بالطبيعة، إذ كان العمل الفني مرتبط بالصناعة أو المعرفة العملية، مما يدفعنا إلى الوقوف على أصل الكلمة في القاموس الفرنسي الذي يحيل على الجذر اللاتيني ARS الذي يعني الصناعة، والجذر اليوناني الذي يعني التقنية . 
إن قيمة الممارسة الإبداعية الفنية تتمثل في كون الفنان يدرك تماما أن ″فنه مسجل في مجتمع ومرحلة محددين‟ . فالفنان لا يقتصر على استعمال واستخدام المهارة الفنية التي يتمتع بها بل ينفتح على قدرات واستعدادات خاصة تتعلق بالخيال. لذلك يعتبر العمل الفني أثرا لارتباطه بالتأمل والخيال والجمال، لذلك يضم العمل الفني ″ فوق جانبه الشيء جانبا آخر أيضا، هذا الآخر القائم في الأثر هو ما يشكل جانبه الفني. من المؤكد أن الأثر الفني هو شيء تم صنعه، إلا أنه يقول كذلك أمرا آخر بالمقارنة بما هو مجرد شيء، إن الأثر يعرف علنا بآخر، إنه يظهر آخرا إنه تمثيل‟ . مع هايدغر يتجلى الوجه الآخر للعمل الفني في الأثر من حيث أنه تمثيل، وبذا تطرح مسألة الممارسة الإبداعية في العمل الفني، أي أنه لا يعيد إنتاج الواقع ، بمعنى المحاكاة، ولا يستحضر العمل الفني بمعنى الذاكرة بالمعنى الحصري للكلمة، بل إنه يستحضر ما هو غير ظاهر وما هو غير موجود، كما أشرنا إلى ذلك في حديثه، يستحضره كآخر أو كدلالة رمزية وهو الذي يعطي للعملية الفنية خاصيتها الأصيلة، الأمر الذي أشار إليه الفيلسوف الألماني هيغل بقوله : ″ لو أردنا تحديد هدف نهائي للفن، فإنه لن يكون غير الكشف عن الحقيقة، وعن التمثيل بشكل ملموس ومصور لما يتحرك في الروح الإنسانية .
الفن كي يكون عملا فنيا عليه أن يسعى إلى الكشف عن الحقيقة وذلك عبر الانتقال من التعبير عن الأشياء إلى التعبير عن الإنسان وحاجاته ورغباته.
السوسيولوجيا و التقييم الإيديولوجي للسينما
العرض السينمائي يستند إلى الجانب المرئي أي ما نشاهده على الشاشات، بالاعتماد على تقنيات خاصة تصنعها ألة التصوير، بتوجيه من شخص هو المخرج الذي يحدد الحقل المرئي و ما يعتبره خارج هذا الحقل، وبالرغم من تحكم المخرج في عمليات العرض السينمائي فإن ما نسميه رؤية ومرئي لا يرتبط بشخص واحد بل بمجموعة من الأشخاص أو مهام ووظائف تعمل على صناعة العرض السينمائي. ومن هذا المنطلق نتحدث عن مجموعة من الأشخاص تتكامل وظيفيا من أجل إنتاج منتوج واحد هو الفيلم، وبالتالي لا يمكن الحديث عن الطابع الذاتي والجانب الخيالي المجرد في العمليات الإبداعية السينمائية و التأكيد على الطابع الاجتماعي الذي يستمد منه المبدع أشكاله الثقافية، ″فالعرض السينمائي من هذا المنطلق هو تمثيل Représentation جماعي، وفي نفس الوقت تحليل للمجتمع بالصيغة التي اقترحها السوسيولوجي الألماني kracauer الذي اعتبر أن السينما تعكس بصورة واضحة المجتمع‟ .
السينما تعتبر عرضا اجتماعيا وفي الوقت نفسه آلة لإنتاج المعاني و القيم و الأفكار، لأنها تمثيل كل ما يتعلق بالمجتمع، كما تحمل تمثل الفاعلين الذين ينتجون الفيلم من كتاب و فنانين وتجار ومهنين...، فالسينما لا تعتبر فقط فنا على سبيل الحصر، بل فن للمتعة وإنتاج الربح و إنتاج و إعادة إنتاج القيم، كذلك تعتبر وسيط بين جهة أو جهات معينة وجمهور، الأول كمرسل و الثاني كمرسل إليه، وهنا تحضر العملية التواصلية والتفاعلية للسينما. إذن هل يمكن أن نفهم السينما خارج ما هو إيديولوجي؟ فماهي الأدوار التي يمكن للسينما أن تلعبها خارج ما هو فني صرف؟
من الواجب علينا  أن نكشف عن الرهانات المرتبطة بالسينما، وأن نحدد الأدوار التي تلعبها لا باعتبارها فنا صرفا، بل مجموعة من القيم والرؤى المرتبطة بمصالح و قوى داخل المجتمع ، وذلك لأن صناعة الفيلم تتطلب رساميل مهمة، لا يمكن للسينما إلا ان تكون متأثرة بالضغوطات والتعسفات الاجتماعية ولحاجات المجتمعات وللضغط الإيديولوجي أيضا، فالأيديولوجيا كحقل يتضمن مصالح ومنافع وقوى متصارعة ومتضاربة... مرتبط بالسينما، فلا يمكن تجاوز هذه الأمر داخل ثقافة مليئة بكل ما يخصب تطلعات الأفراد والطبقات والسلطة داخل حقل مرئي ينمو ويتسع بشكل مثير والذي أصبح اليوم يغزو العالم بسرعة كبيرة بفضل انتشاره وسهولة الإقبال عليه، كما أن هذا الحقل المرئي يغذي الذاكرة الجماعية، وقد ساعده على ذلك امتداده في الزمان والمكان بفضل التقنية المذهلة التي عرفت انتشارا وتطورا كبيرا.
يقول بييرسورلان ″لا تكشف الشاشة العالم كما هو، بل كما يتم تجزيئه، وفهمه في مرحلة معينة‟ ، وفي هذا الإطار يأتي دور الكاميرا التي تلتقط ما هو مهم وتستبعد ما هو ثانوي، مما يجعلنا نعتبر أن الكاميرا غير محايدة، فهي تصنع المرئي حسب نسق و آفاق تخضع لتصور واتجاه معين للفضاء المرئي، كذلك أنها غير ثابتة ولا تتحرك لوحدها، بل موجهة من طرف عين واعية بمجمل الفضاء المقصود. ″فمجمل حركات الكاميرا هي امتداد لرؤية/عين المخرج، التي تقسم المجال إلى ما يzطلح عليه ب le champ و hors champ (الحقل وخارج الحقل)، وهو بالضبط ما يتم تحديده داخل الإطار le cadre و التأطير‟ ، أي أننا من خلال آلة الكاميرا و رؤية المخرج نحدد ما هو قابل للرؤية وللعرض وما لا يمكن أن يمثل داخل حقل الرؤية، إنها المقاربة التي تتحكم في السينما من خلال وظيفة الإخراج التي تتحكم في كل الأدوار الأخرى المساهمة في إنجاح العرض السينمائي.
إن المخرجين في نظر بييرسورلان ″لا يصورون ما يرونه، ولكن ما يريدون إبرازه أو عرضه‟ ، أي أن عين المخرج تتحكم في حقل الرؤية وهندسته، كما أشار إلى ذلك كارل ماركس عندما وصفها بالعلبة السوداء داخل جهاز التصوير الفوتوغرافي، إذ يقول في هذا الصدد : ″وإذا كان البشر وجميع علاقاتهم يبدو لنا من الإيديولوجية بكاملها، موضوعين رأسا على عقب كما في غرفة مظلمة، فإن هذه الظاهرة تنجم عن عمليات تطور حياتهم التاريخية تماما كما أن انقلاب الأشياء على الشبكية ينجم عن عملية تطور حياتهم الفيزيائية بصورة مباشرة‟ .
من خلال ما سبق يتضح أننا لسن أمام كاميرا محايدة، بل أمام عين ورؤية المخرج التي تقودنا إلى ما يريد إبرازه، مما يدفعنا للقول أن السينما ليست نقلا حرفيا للواقع، أي نقلا لجزء منه فقط، هذا الجزء الي يكون بدوره خاضعا لعدة رهانات تكون الإيديولوجيا حاضرة فيه.
خاتمة
إن المقاربة السوسيولوجية للسينما تجعلنا أمام مجموعة من المعطيات السوسيوثقافية تتضمنها كثير من الأفلام السينمائية، وهي معطيات تفرض نفسها باعتبارها مؤشرات دالة على حضور الواقعي داخل المتخيل، فالفيلم السينمائي باعتباره وثيقة حاملة للمعلومات وناقلة لمعطيات وأحداث اجتماعية، لا يمكن اعتباره قصة أو حكاية تحملها صور متوالية، بل هو إخراج سينمائي اجتماعي، تتدخل في إنجاحه مجموعة من الأفراد بشكل متكامل، يتميز بالإضافة إلى الجانب التقني والجمالي، فهو يحمل هما جماعيا. فخصوصية الإبداع السينمائي تتجلى في علاقته مع المجتمع، فلا يمكن فهم العمل السينمائي بمعزل عن المجتمع، والعلاقة التي تربط بين المنتجين والمستهلكين. وفي هذا السياق تعكس السينما المجتمع بكل تفاعلاته وتحولاته.


الهوامش 
 1موسوعة تاريخ السينما في العالم (السينما المعاصرة 1995-1960)، المجلد الثالث، إشراف جيوفري نوويل سميث، ترجمة أحمد يوسف، مراجعة هاشم النحاس، المركز القومي للترجمة-القاهرة، الطبعة الأولى، 2010، ص 7.
2 سمير سعيد حجازي، معجم المصطلحات الحديثة في علم النفس وعلم الاجتماع ونظرية المعرفة، دار الكتب العالمية، بيروت، بدون تاريخ، ص 186.
 3سمير إبراهيم حسن، الثقافة والمجتمع، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، 2008، ص 130.
 4 Ralf Linton, De l’homme, édition Minuit, paris, 1968, p 491.
5 أنجليز ديفيد، جون هونستن، مدخل إلى سوسيولوجيا الثقافة، ترجمة لما نصير، المركز العربي لأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، ط 1، 2013، ص 21.
 6) Ethis Emanuel, sociologie du cinéma et ses publics, Armand colin, 2eme éd, 2011, p5.

  7 فريد بوجيدة، الصورة والمجتمع( من المحاكاة إلى السينما)، مرجع سابق، ص 27.
 8 )Anne Marie Laurran, Cinéma presse et public, édition Retz CERL ? PARIS 1978, p 21.
 9)Jean Lorain Baudry, effet cinéma, édition albatros, paris, 1978, p 15.
 10 )J Aumont, A Bergala, M Mari, M Vernet, Esthétique du film, Edition Nathan, 1983, p 31.
 11 )Edgar Morin, le cinéma ou l’homme imaginaire, Edition Minuit, paris, 2007, p 30.
  12)Pierre Sorlin, op cit, p 115.
  13 فريد بوجيدة، المرجع السابق، ص 29.
 14)Roberto ROSSELLINI, op.cit, p50
15 )Ibid, p55.
 16  فلسطين في السينما، كتاب جماعي تحت إشراف وليد شميط وغي هينبل، منشورات فجر، بيروت، من دون تاريخ، ص 44..
  17)M.Driss JAIDI, Le cinéma au Maroc, Collection Al Majal, Rabat, 1991, p7.
 18 يوسف يوسف، قضية فلسطين في السينما العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980، ص17.
 19 جان الكسان، السينما في الوطن العربي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، مارس 1982، ص19.
20 أرنولد هاوزر، الفن والمجتمع عبر التاريخ، ترجمة الدكتور فؤاد زكريا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الجزء الأول، بيروت، 1981، ص422.
 21  André BAZIN, Qu’est ce que le cinéma? III – Cinéma et sociologie, 7ème art, Editions du CERF, Paris, 1961, p82.
 22  M.Driss JAIDI, Vison(s) de la société marocaine à travers le court métrage, p11.
23  Elem KLIMOV, Le cinéma doit être sincère en tout ? Présenté par Valentino BLINOV, Traduit    par Serguei MOURAVIEW, Editions de l’agence de presse Novosti, 1987, p12. 24
  25 الواقعية في السينما العربية، منشورات الجامعة التونسية لنوادي السينما(1)، تونس 1988، ص74.
  Eric ROHMER, Pascal BONTZER, Editions de l’étoile, Cahiers du cinéma, Collection «Auteurs», Paris, 1991, p70
 26) Roberto ROSSELLINI, op.cit, p54.
27 ) Sorlin Pierre, Sociologie du cinéma, Aubier, Montaigne, Paris, 1977, p24.
 28 ) M.Driss JAIDI, Cinégraphiques (Cinéma et société), Al Majal, Rabat, 1995, p5.
29 ) M.Driss JAIDI, op.cit, p5.
 30 )M.Driss JAIDI, op.cit, p6.
 31 « CinémAction » et « Tricontinental », Le tiers monde en films, Revues trimestrielle, Numéro spécial, Maspero, Paris, Janvier, 1982, p14
 32 محمد نجيب قلال، الواقعية في السينما العربية، ، منشورات الجامعة التونسية لنوادي السينما(1)، تونس 1988، ص 86.
 33)Dictionnaire Encyclopédique quillet, paris, 1990, p 406.
  34شاكر عبد الحميد، التفضيل الجمالي، عالم المعرفة، ع 267، 2001، ص 24
 35شاكر عبد الحميد، التفضيل الجمالي، مرجع سابق،2001، ص 26.
 36 )Dictionnaire Encyclopédique, op cit, p 406.
37 ) Ibid. 406.
 38هايدغر مارتن، كتابات أساسية، ج 1، ترجمة إسماعيل المصدق، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 2003، ص 69.
 39 ) Hegel, esthétique, traduit par jean Kelevich, ed Aubier Montaigne, paris, 1994, p 40.
 40فريد بوجيدة، مرجع سابق، ص 144.
 41 )Baudry Jean luis, l’effet cinéma, Edition albatros, paris 1978, p 54. 
42 )Pierre sorlin, op cit p 33.
 43فريد بوجيدة، مرجع سابق، ص 148.
 44 )Pierre sorlin, op cit  p 209.
45 )كارل ماركس، الإيديولوجية الألمانية، ترجمة فؤاد أيوب، دار دمشق للطباعة و النشر، دمشق، ط1، 1976، ص 30.


بيبليوغرافيا :
مراجع باللغة العربية
موسوعة تاريخ السينما في العالم (السينما المعاصرة 1995-1960)، المجلد الثالث، إشراف جيوفري نوويل سميث، ترجمة أحمد يوسف، مراجعة هاشم النحاس، المركز القومي للترجمة-القاهرة، الطبعة الأولى، 2010.
فريد بوجيدة، الصورة والمجتمع من المحاكاة إلى السينما، مطبعة الجسور ش.م.م، وجدة، الطبعة الأولى، 2016.
سمير سعيد حجازي، معجم المصطلحات الحديثة في علم النفس وعلم الاجتماع ونظرية المعرفة، دار الكتب العالمية، بيروت، بدون تاريخ.
سمير إبراهيم حسن، الثقافة والمجتمع، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، 2008.
أنجليز ديفيد، جون هونستن، مدخل إلى سوسيولوجيا الثقافة، ترجمة لما نصير، المركز العربي لأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، ط 1، 2013.
فلسطين في السينما، كتاب جماعي تحت إشراف وليد شميط وغي هينبل، منشورات فجر، بيروت، من دون تاريخ
يوسف يوسف، قضية فلسطين في السينما العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980.
جان الكسان، السينما في الوطن العربي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، مارس 1982.
أرنولد هاوزر، الفن والمجتمع عبر التاريخ، ترجمة الدكتور فؤاد زكريا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الجزء الأول، بيروت.
الواقعية في السينما العربية، منشورات الجامعة التونسية لنوادي السينما(1)، تونس 1988.
محمد نجيب قلال، الواقعية في السينما العربية، ، منشورات الجامعة التونسية لنوادي السينما(1)، تونس 1988
شاكر عبد الحميد، التفضيل الجمالي، عالم المعرفة، ع 267، 2001.
هايدغر مارتن، كتابات أساسية، ج 1، ترجمة إسماعيل المصدق، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 2003.
زكريا فؤاد، مشكلة الفن، دار مصر للطباعة، القاهرة، الطبعة الثانية، 1967.
كارل ماركس، الإيديولوجية الألمانية، ترجمة فؤاد أيوب، دار دمشق للطباعة و النشر، دمشق، ط1، 1976.
جانيتي لوي، فهم السينما، نظرية السينما، منشورات عيون، دار اينمل مراكش 1993.
سوسيولوجيا الفن (طرق للرؤية)، محور: الفن والمجتمعة، عالم المعرفة، عدد 341، ترجمة د ليلى الموسوي، 2007.
مراجع باللغة الفرنسية

Philipe D’HUGUES, Almanach du cinéma : des origines à 1945, Volume I’ Encyclopédie Universalis, France, 1992.
Ralf Linton, De l’homme, édition Minuit, paris, 1968.
Ethis Emanuel, sociologie du cinéma et ses publics, Armand colin, 2eme éd, 2011.
Anne Marie Laurran, Cinéma presse et public, édition Retz CERL ? PARIS 1978.
J Aumont, A Bergala, M Mari, M Vernet, Esthétique du film, Edition Nathan, 1983.
Jean Lorain Baudry, effet cinéma, édition albatros, paris, 1978.
Edgar Morin, le cinéma ou l’homme imaginaire, Edition Minuit, paris, 2007.
M.Driss JAIDI, Le cinéma au Maroc, Collection Al Majal, Rabat, 1991.
André BAZIN, Qu’est-ce que le cinéma? III – Cinéma et sociologie, 7ème art, Editions du CERF, Paris, 1961.
Elem KLIMOV, Le cinéma doit être sincère en tout ? Présenté par Valentino BLINOV, Traduit par Serguei MOURAVIEW, Editions de l’agence de presse Novosti, 1987.
Eric ROHMER, Pascal BONTZER, Editions de l’étoile, Cahiers du cinéma, Collection «Auteurs», Paris, 1991.
Sorlin Pierre, Sociologie du cinéma, Aubier, Montaigne, Paris, 1977.
Dictionnaire Encyclopédique quillet, paris, 1990.
Hegel, esthétique, traduit par jean Kelevich, ed Aubier Montaigne, paris, 1994.
Baudry Jean luis, l’effet cinéma, Edition albatros, paris 1978.
Casseti Francessco, les théories du cinéma depuis 1945, traduit de l’italienne par sophie saffi, Armand colin , 2005.
Kracauer Segrfried, De galigari a hetler,  histoire psychologique de cinéma allemand, l’âge de l’homme 2009.
Morin Edgar, le cinéma ou l’homme imaginaire, ed minuit 1956.
Edgar morin, préface du livre : cinéma et science sociale, panorama de film Ethnologique et sociologique rapports et documents de sciences sociales unesco n 16,1962.
Morin E, Fridman G , Revue international de filmologie T.Vi, n 20-24. Paris PUP, 1955.
Sorlin Pierre, sociologie du cinéma : ouverture pour l’histoire de demain, aubier Montagne, paris 1977.



تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption